كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

في الأرضِ مِن مأكولاتٍ: الحِلُّ، ويظهرُ العمومُ في قوله: {مِمَّا فِي الْأَرْضِ} بلا تخصيصٍ أو تقييدٍ، و"مِن" في الآيةِ: لتبعيضِ المأكولِ المقدورِ على أكلِه، لا لتبعيضِ الأكلِ المباحِ كلِّه؛ فالإنسانُ لا يستطيعُ أَكْلَ كلِّ ما في الأرضِ.
والإباحةُ أُخِذَتْ مِن قولِه: {كُلُوا}؛ لأنَّ الأمرَ لا يكونُ إلا على شيءٍ مباحٍ ومشروعٍ، ولا يأمُرُ الشارعُ بشيءٍ يخرُجُ عن هذا، ولكنَّه أكَّدَ الإباحةَ بمؤكِّداتٍ؛ منها قولُه: {حَلَالًا}، وهو إيضاحٌ لسببِ الأمرِ بالأكلِ؛ أيْ: لكونِه حلالًا.
وزاد في بيانِ الحِلِّيَّةِ بوصفِهِ بالطيِّبِ، والطيِّبُ ما تستطيبُهُ النفوسُ المستقيمةُ المعتدِلةُ، وليس الشاذَّةَ، وبعضُ النفوسِ فد يطرَأُ عليها تبديلٌ للفِطْرةِ، وهذه غيرُ معتَبرةٍ.
ووصفُ الطيِّبِ للمأكولِ المباحِ علَمٌ يُعرَفُ به، ويُكْتَفَى به عدَ إرادةِ بيانِه؛ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: ٤]، وقال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: ٥].
والنفوسُ بجميعِ مِلَلِها مؤمنِةً وكافِرةً، مفطورةٌ على استطابةِ الطَّيِّب واستخباثِ الخبيثِ؛ ولهذا جاء الخطابُ لبَنِي آدمَ كافَّةً: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء: ٧٠]، وكلُّ أمَّةٍ يخاطِبُها اللهُ بالأكلِ يكتفِي بوصفِه بالطيِّبِ؛ قال تعالى عن بني إسرائيلَ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: ٥٧].
إلا أنَّه يطرأُ على بعضِ نفوسِ بني آدمَ تبديلٌ؛ كما يطرأُ عليها تبديلُ في معبودِها؛ كما في الحديثِ في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ؛ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ

الصفحة 142