كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

والمتشابِهاتُ في الوحيِ هي جِهادُ العُلماءِ؛ لأنَّ ذلك مِنِ ابتِلاءِ العُقولِ الذي جَعَلَهُ اللهُ اختِبارًا للمَقاصِدِ والنِّيَّاتِ، وإخراجًا لمَكنُونِ النُّفُوس، فبذلكَ يتمايَزُ الصادِقُ مِن صاحبِ الهَوَى، فمَصَارِعُ العلماءِ عدَ المتشابِهاتِ قَبْلَ المُحْكَمَاتِ.
ولَمَّا كانَ القرآنُ عامًّا في غالِبِه، والسُّنَّةُ مُفَصَّلَةً في عمومِها، وجَبَ على الناظِرِ في القُرآنِ الإحاطةُ بمعاني الآيةِ مِن السُّنَّةِ، وتَحَرِّي تفسيرِها مِن القرآنِ؛ فإنَّ القرآنَ يُفَسِّرُ بعضُه بعضًا، ويُبَيِّنُ بعضُه بعضًا؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: ٢٣]، قال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: "يُشْبِهُ بعضُه بعضًا، ويُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، ويَدُلُّ بعضُه على بعضٍ" (١). وبنحوِ هذا أو معناهُ قال الحَسَنُ وعِكرِمةُ وقَتادةُ (٢)، وقد قالَ ابنُ عبَّاسٍ: "كِتَابُ اللهِ مَثَانٍ، ثَنَّى فيه الأَمْرَ مِرَارًا" (٣).
ولإحكامِ القُرآن كانَ نَسْخُ أحكامِه منه بنَفْسِه، ولا يكاد تُنْسَخُ آيةٌ مِنَ القرآنِ إلا بمِثْلِها، ويُؤَيِّدُها الحديثُ والأَثَرُ، وإنْ كانَتِ السُّنَّةُ تُقَيِّدُ القرآنَ وتخصِّصُه وتُبَيِّنُه وتُفَسِّرُه، كما قال أحمدُ: "لا يَنْسَخُ القرآنَ إلا قُرآنٌ يَجِيءُ بعدَهُ، والسُّنَّةُ تفسِّرُ القُرآن" (٤).
وبنحوِ هذا قال الشافعيُّ وغيرُه.
وإذا كانَتِ السُّنَّةُ لا تَنسَخُ القرآنَ عندَهم، فقولُ الصحابيِّ مِن بابِ أوْلَى، وأولَى منه: التابعيُّ.
---------------
(١) "تفسير الطبري" (٢٠/ ١٩١).
(٢) "تفسير الطبري" (٢٠/ ١٩١ - ١٩٢).
(٣) "تفسير الطبري" (٢٠/ ١٩٢).
(٤) "العدة في أصول الفقه" للقاضي أبي يعلى الفرَّاء (٣/ ٧٨٨ - ٧٨٩).

الصفحة 15