كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

وحينَما تضيِّعُ الأمَّةُ الأصولَ، تتشبَّثُ بالفروعِ؛ تَسْلِيَةً لنفسِها أنَّها باقيةٌ على شأنِها.
ومِن أعظمِ مهمَّاتِ العالِمِ: إعادةُ المراتبِ إلى وضعِها الصحيحِ، وتصحيحُ الخَلْطِ فيها، وقطعُ الطريقِ على شهوةِ السُّلْطانِ وهَوَى النفسِ.
وكثيرٌ مِن الناسِ بجعلونَ مراتبَ الشرائعِ حسَبَ أهوائِهم؛ فما أحبَّتْهُ النفسُ وسَهُلَ عليها تحقيقهُ، رَفَعُوه، وما شَقَّ عليها، بحَثُوا عن أسبابِ تجاهُلِهِ ووضعِهِ عن مرتبتِهِ؛ قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: ١٩]؛ قريشٌ تُحِبُّ سقايةَ الحاجِّ وعِمَارةَ المسجدِ الحرامِ؛ لأنَّ لها به جاهًا، ولأنَّه يحفظُ مكانتَها بين الناسِ، فقدَّمَتْهُ وبالَغتْ فيه، وفرَّطَتْ في توحيدِ اللهِ وعبادتِه.
وقولُ اللَّهِ تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}؛ يعني: أعطَى المالَ وهو مُحِبٌّ له محتاجٌ إليه، وهذا بيانٌ لتمكُّنِ حبِّ المالِ، وكثيرًا ما يأتي في الشرعِ بيانُ منزلةِ الصَّدَقةِ، وأنَّها تتباينُ بحَسَبِ منزلتِها وقيمتِها عندَ صاحِبِها.
ومِثلُ هذه الآيةِ قولُهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} [الإنسان: ٨]، وقولُهُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: ٩٢].
روى وكيعٌ، عن الأعمشِ؛ وسُفْيانُ الثوريُّ، عن زُبَيْدٍ؛ كلاهما عن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ؛ قال في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}: "أنْ تُعْطِيَهُ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ، تأمُلُ العيشَ، وتخشَى الفقرَ" (١).
ورُوِيَ مرفوعًا؛ من حديثِ شُعْبةَ والثوريِّ، عن منصورٍ، عن زُبَيْدٍ، عن مُرَّةَ، به (٢)؛ والوقفُ أشبهُ بالصوابِ.
---------------
(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (١/ ٢٨٨).
(٢) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٣٠٧٨) (٢/ ٢٧٢).

الصفحة 166