كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

وقد كان الإمامُ أحمدُ أكثَرَ الأئمَّةِ الأربعةِ جمعًا للحديثِ والأَثَرِ، وكتابُه "المُسْنَدُ" ومَرْوِيَّاتُه في السُّؤَالاتِ والفضائِلِ والزُّهدِ والوَرَعِ والعِلَلِ والرِّجَال: دالَّةٌ على ذلك، ولا يُنازِعُه في ذلك أحَدٌ، وهو آخِرُ الأئمَّةِ الأربعةِ وفاةً، وتحصَّلَ له مِن معرفةِ قولِ مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ ما لم يتحَصَّل لهم مِن معرفةِ قولِ بعضِهم لبعضٍ، ويليه الشافعيُّ بَصَرًا بقولِ مالِكٍ وأبي حَنِيفة، فعَرَفَ أحمدُ أقوالَ الصحابةِ والتابعينَ، وأقوالَ أئمَّةِ المذاهبِ قَبْلَ أن تَظْهَرَ مذاهِبُهم، وكانَتْ كَثرةُ مرويَّاتِ أحمدَ للحديثِ والأَثَرِ سببًا في كفايةِ أتباعِ مذهَبِه عن جمعِ الأدلَّةِ على أقوالِه، بخلافِ غيرِه؛ كما احتاجَ أَتْباعُ الشافعيِّ إلى جمعِ أدلَّةِ مذهَبِه كما فَعَلَ البيهَقِيُّ في كتابِه "السُّنَن والمَعْرِفَة"، وكما احتاجَ أَتْباعُ أبي حنيفةَ إلى جمعِ أدلَّةِ مذهَبِهِ كما فَعَلَ أبو يُوسُفَ ومحمَّدُ بنُ الحسَنِ في الآثارِ وغيرِها، وكالطَّحَاوِيِّ في كتابِه "مُشْكِلِ الآثارِ"، و"شرح معاني الآثار"، وكان أَتبْاعُ مالكٍ أكثَرَ أصحابِ المذاهب الأربعةِ عنايةً بآياتِ الأحكامِ وجمعًا لها، وكان أتباعُ الشافعيِّ أكثر أصحابِ المذاهبِ الأربعةِ عنايةً بأحاديثِ الأحكامِ وجمعًا لها، وكُلُّ مَذْهَبٍ له فَضْلٌ على غيرِه في بابٍ دُونَ بابٍ.
والمنقولُ عن الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ في أخذِ الأحكامِ مِن آياتِ القرآنِ قَدْرٌ ليس بالقَلِيل، وهو مَنْثُورٌ في مسائِلِه والنُّقولِ عنه، وعامَّتُه في مواضِعِه مِن هذا الكتابِ، وللقاضي أبي يَعْلَى كتابٌ في أحكامِ القرآنِ؛ يَذْكُرُه ويَنْقُلُ منه الطُّوفِيُّ وابنُ اللَّحَّامِ وغيرُهما، وأبو يَعْلَى إمامٌ في المذهَبِ ونُصوصِ الإمامِ واختلافِها، ولكنَّه قليلُ النظرِ في عِلَلِ الحديثِ ورجالِه؛ ولهذا وَقَعَ الاحتجاجُ بأحاديثَ واهِيَةٍ وضعيفةٍ.

الصفحة 20