كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

وفي قولِهِ تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قد صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قالِ: "كان لِرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَرَابةٌ مِن جميعِ قُريْشٍ، فلمَّا كذَّبوهُ، وَأَبَوْا أنْ يُبايِعُوهُ، قال: يا قومِ؛ إذا أَبَيْتُم أنْ تُبايِعُوني، فاحفَظُوا قَرَابَتِي فيكُم، ولا يكونُ غيرُكُم مِن العَرَبِ أَوْلى بِحِفْظِي ونُصْرَتي مِنكم"؛ رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ (١).
ورَوَى البخاريُّ مِن حديثِ طاوُسٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-؛ أنّه سُئِلَ عن قولِهِ تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، فقال سعيدُ بن جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: عَجِلْتَ! إنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَكْنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا كَانَ لَهُ فِيهُمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ مِنَ القَرَابَةِ (٢).
وظاهِرُ هذِهِ الآيةِ: أنَّها في صِلةِ الرَّحِمِ وأداءِ الحقِّ بيْنَ النّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وبينَ قوْمِهِ قُريْشٍ؛ لأنَّ السورةَ مكيَّةٌ، والخِطابَ بينَهُ وبينَ قريشٍ لا سائِر العربِ.
* * *

* قال اللَّهُ تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: ٣٨].
ذكَرَ اللَّهُ صِفاتِ المستجيبِينَ للَّه، وذَكَر أوَلَها إقامَ الصلاةِ؛ وذلِك لِأنَّها أعظَمُ الشعائِرِ الظاهِرة، وأظهَرُ التعبُّدِ يُكونُ فيها؛ ولِهذا جاء التأكيدُ عليها في الشريعةِ أشَدَّ مِن غيْرها مِن الأعمال البدنيَّة، ثمَّ ذَكَرَ التشاوُرَ بعدَما ذكَر الصلاةَ؛ لأنَّ مِن أقامَ الصلاةَ كما أمَرَ اللَّهُ، صحَّ رأيُه وسَلِمَ فِكرُهُ مِن الأهواء، فلا يُشيرُ عن طمعٍ وحظِّ نَفْسٍ، وأمَّا رأيُ غيرِهم،
---------------
(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (١٠/ ٣٢٧٥).
(٢) أخرجه البخاري (٤٨١٨).

الصفحة 2029