كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

لا يُصِيبُ منهم إلَّا قدرًا يسيرًا لا يُذكَرُ، فلا يجوزُ قتلُ المُسلِمينَ الذين يتترَّسُ بهم العدوُّ على الأرجحِ؛ وهذا كما تترَّسَ الباطنيُّونَ هذه الأيامَ مِن النُّصَيْرِيَّةِ بألفَيْنِ مِن المُسلِمينَ في بعضِ نَواحي الشامِ يَحْتَمُونَ بهم، وما يَلحَقُ أهلَ السُّنَّةِ مِن رَمْيِهم أقلُّ مِن عُشْرِ مِعْشَارِ ما لو رمَوْهم وقتَلُوهم مع المُسلِمينَ، فيجبُ عليهم عَدَمُ رَمْيِهم؛ حتى لا يُصابَ المُسلِمونَ لكثرتِهم؛ وإنَّما يُحاصِرونَهم حتى يُنجِيَ اللَّهُ المؤمنينَ ويَدفَعَ شرَّ الباطنيِّين.
الثانيةُ: أن يكونَ رميُ المشرِكِينَ يَدفَعُ عن المُسلِمينَ ضررًا أشَدَّ مِن الضررِ الذي يَلحَقُ المُسلِمينَ الذين تترَّسَ بهم العدوُّ؛ كأنْ يتترَّسَ العدوُّ بعددٍ قليلٍ، ويقومَ برمي المُسلِمينَ بما يُمْكِنُهُ مِن القذائفِ، فيُصيبَ منهم ويقتُلَ أكثَرَ ممَّا يقتُلُهُ المُسلِمونَ مِن إخوانِهم الذين يتترَّسُ بهم العدوُّ، ولو تُرِكَ العدوُّ لأجلِ تترُّسِهِ لَتَقَدَّمَ وأَثْخَنَ بالمؤمِنِينَ واستباحَ الدماءَ والأعراضَ.
فيجوزُ رميُ المشرِكِينَ ولو قتَلُوا معهم مَن تترَّسُوا بهم مِن المؤمنينَ، وقد حكى الاتفاقَ على جوازِ ذلك جماعةٌ مِن العلماءِ كالقُرْطُبيِّ (١)، وابنِ تيميَّةَ (٢)، وقد ذكَر النوويُّ وجهًا للشافعيَّةِ بالمنعِ (٣).
وبعضُ الفقهاءِ يجعلُ مَناطَ المنعِ والجوازِ هو ضررَ المُسلِمِينَ مِن غيرِ تفصيلٍ، والصحيحُ التفصيلُ، والحاجةُ ماسَّةٌ إليه، خاصَّةً في زمنِنا؛ لكثرةِ المُسلِمِينَ وتسلُّطِ الكفارِ والمشرِكِينَ، فقد يُحيطُ المشرِكُونَ ويتترَّسُونَ بأهلِ قريةٍ كاملةٍ مِن المُسلِمِينَ، وفيها آلافُ المُسلِمِينَ، والمشرِكونَ قليلٌ؛ ولكنَّهم تمكَّنُوا منهم بقوةِ سلاحٍ معهم، كما تترَّسَ الباطنيُّونَ وهم قليلٌ في الشام بسِجْنٍ فيه عشَرةُ آلافِ مسلِمٍ مِن أهلِ السُّنَّة؛ فلا يجوزُ ولا يصحُّ أنْ يُقالَ: إنْ كان في هؤلاء المشرِكِينَ ضررٌ
---------------
(١) "تفسير القرطبي" (١٩/ ٣٣٣).
(٢) "مجموع الفتاوى" (٢٠/ ٥٢).
(٣) "روضة الطالبين" (١٠/ ٢٤٦).

الصفحة 2058