كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

أنَّهم ليسوا معصومينَ؛ فإنَّه لا يقولُ مسلمٌ بعِصْمَتِهم، ولكنَّهم أعلَمُ الناسِ برسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يقدِّمُ أحدٌ فَهْمَهُ على فهمِهم، إلَّا مَن لم يَعرِفْ قَدْرَهم.
وقد كان مالكُ بنُ أنسٍ يَنهى عن تقديمِ أقوالِ فقهاءِ التابِعِينَ -مع فضلِهم- على أقوالِ الخلفاءِ الراشِدِينَ كعُمَرَ؛ بل يَدْعو إلى استتابةِ مَن يفعلُ ذلك؛ كما روى ابنُ حزمِ عن الهَيْثَمِ بنِ جَمِيلٍ؛ قال: قلتُ لمالكِ بنِ أنسٍ: با أبا عبدِ اللَّهِ، إنَّ عندَنا قومًا وضَعُوا كتبًا يقولُ أحدُهم: ثنا فلانٌ، عن فلانٍ، عن عمرَ بنِ الخطَّابِ بكذا وكذا، وفلانٌ عن إبراهيمَ بكذا، ويأخُذُ بقولِ إبراهيمَ؟
قال مالكٌ: وصحَّ عندَهم قولُ عمرَ؟
قلتُ: إنَّما هي روايةٌ؛ كما صحَّ عندَهم قولُ إبراهيمَ.
فقال مالكٌ: هؤلاءِ يُستتابُونَ، واللَّهُ أعلَمُ (١).
وهذا في فقيهٍ تابعيٍّ متأخِّرٍ، ويَعُدُّهُ بعضُهم مِن أتباعِ التابعينَ، مع تقدُّمِ زمانِهِ وجلالةِ قَدْرهِ في الفقهِ؛ فتقديمُ قولِ غيرِه ممَّن كان بعدَهُ مِن بابِ أولى أنْ يُزجَرَ فاعلُه.
وأقوالُ الصحابةِ عمومًا مقدَّمةٌ على أقوالِ التابعينَ، وأقوالُ التابعينَ مقدَّمةٌ على أقوالِ أتباعِهم؛ وذلك أنَّه كلَّما قَرُبَ العهدُ مِن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان القولُ أقرَبَ إلى الصوابِ، وأسلَمَ مِن الهَوَى.
والأصلُ في أقوالِ الصحابةِ: أنَّ مُستنَدَها الرفعُ؛ إمَّا مِن قولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فعلِهِ أو تقريرِهِ، أو ما سكَتَ عنه ولم يُبيِّنْ فيه شيئًا، وانِ اختلَفَتْ أقوالُ الصحابةِ فيما بينَهُمْ، فاختلافُهم دليلٌ على معنًى مرفوعٍ، وهو أنَّ المسألةَ مِن مسائلِ السَّعَةِ، لا مِن مسائلِ التشديدِ.
---------------
(١) "الإحكام، في أصول الأحكام" (٦/ ١٢٠ - ١٢١).

الصفحة 2063