كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

عن ابنِ عبَّاسٍ؛ في قولِه: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}؛ قال: اسْتَنْزَلُوهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَأُمِرُوا بِقَطْعِ النَّخْلِ، فَحَاكَ فِي صُدُورِهمْ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: قَدْ قَطَعْنَا بَعْضًا، وَتَرَكْنَا بَعْضًا، فَلَنَسْأَلَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ أَجْرٍ، وَهَلْ عَلَيْنَا فِيمَا تَرَكْنَا مِنْ وِزرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه عزَّ وجلَّ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً} (١).
وفي هذا: أنَّ اللَّهَ لم ينكِر على نبيِّه ولا على صحابتِه فِعْلَهم؛ وهذا ظاهرٌ في قوله تعالى: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}، ولم يكنِ اللَّهُ لِيأذَنَ لنبيٍّ بمحرَّمٍ، بل سمَّاه هنا خِزْيًا على المُنافِقينَ، وذُلًّا وصَغَارًا لهم.
وقد اختلَفَ العلماء في جوازِ إتلافِ حَرْثِ العدوِّ المُحَارِبِ ودُورِهم، على قولَيْنِ:
ذهَبَ جماعةٌ: إلى جوازِ ذلك إنْ كان فيه مصلحة للمُسلِمينَ؛ كأنْ يَعلَموا أن هذا المالَ لن يَؤُولَ إلى المُسلِمِينَ ولن يَنتفِعوا منه؛ وبهذا قال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ؛ أخذًا مِن ظاهرِ فِعْلِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَني النضيرِ، ولم يَنهَهُ اللَّهُ ولم يُعاتِبْهُ على ذلك.
وقد أجاز أحمدُ الحَرقَ إذا كان بلا عبثٍ؛ وإنَّما لمصلحةٍ؛ كالمواضعِ التي لا بدَّ منها، وبنحوِهِ قال إسحاقُ؛ فقد جَوَّزَهُ نِكايةً، بل جعَلَهُ سُنَّةً بذلك القَيْدِ.
وذهب الأوزاعيُّ في قولٍ وغيرُهُ: إلى المنعِ مِن ذلك (٢)، وجعَلَ فِعْلَ الناسِ في بَني النَّضيرِ منسوخًا، وأنَّه قضيَّةُ عَيْنٍ نُهِيَ عنها بعدَ ذلك، واستَدَلَّ بما رَوَى مالكٌ، عن يحيى بنِ سعيدٍ؛ أَنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ
---------------
(١) أخرجه الترمذي (٣٣٠٣)، والنسائي في "السنن الكبرى" (١١٥١٠).
(٢) ينظر: "سنن الترمذي" (١٥٥٢).

الصفحة 2126