كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

* قال اللَّه تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: ٨ - ٩].
جعَلَ اللَّهُ الكفارَ على نوعَيْنِ: مُحارِبِينَ ومُسالِمِينَ، فلم يَنْهَ اللَّهُ عن صِلةِ المُسالِمِينَ والإحسانِ إليهم، وأنَّ هذا لا يَقتضي مُخالَفةَ أمرِ اللَّهِ بالبراءةِ مِن المشرِكِينَ، وقد ثبَتَ في "المسنَدِ"، و"الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رضي اللَّه عنهما-؛ قالتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ قُرَيْشٍ إذْ عَاهَدُوا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ أُمِّي قَدِمَت وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ) (١).
وهذه الآية في كلِّ مشرِكٍ غبرِ مُحارِبٍ، والسلفُ إنَّما يَختلِفون في سببِ نزولِها والمقصودِ فيها؛ فقد صحَّ عن مجاهدٍ؛ أنَّ المقصودينَ هم الذين آمَنوا بمَكَّةَ ولم يُهاجِروا ولم يُقاتِلوا (٢).
وقال غيرُهُ: إنَّها في غيرِ مُشرِكِي مكةَ ممَّن لم يُعادِ مِن العربِ، وهي في كلِّ مشرِكٍ مسالِمٍ سواءٌ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ بنَسْخِ هذه الآيةِ بسورةِ براءةَ (٣)؛ قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١]، {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ٥]، وبالنَّسْخِ قال عِكْرِمةُ والحسنُ وقتادةُ وابنُ زَيْدٍ وغيرُهم (٤).
---------------
(١) أخرجه أحمد (٦/ ٣٤٧)، والبخاري (٢٦٢٠)، ومسلم (١٠٠٣).
(٢) "تفسير الطبري" (٢٢/ ٥٧٢).
(٣) "تفسير ابن المنذر" (٢/ ٨٢٢ - ٨٢٣).
(٤) "تفسير الطبري" (٧/ ٢٩٨ - ٣٠٠) و (٢٢/ ٥٧٣).

الصفحة 2132