كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

وثبَتَ النَّسْخُ في حالِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابِهِ؛ لمَّا قَوِيَ أمرُهم وكَمُلَ إتيانُ مَن أراد الحقَّ مِن المشرِكِينَ، فآمَنوا ولَحِقوا بالمؤمِنِينَ، ثمَّ أمَرَ اللَّهُ بقتالِ مَن تبقَّى، والحكمُ باقٍ يُعمَلُ به لمَن كانتْ حالُهُ كحالِهم عندَ نزولِ النصِّ الأول، ويُؤخَذُ بالثاني الناسخِ إنْ كانتْ حالُهم كحالِ المُسلِمِينَ حينَها؛ وذلك أنَّ الصحابةَ ما زالوا يَعمَلونهَ بالحُكْمَيْنِ جميعًا لا يَختلِفونَ في جوازِ البِرِّ بالكافِرِ المُسالِمِ وتأليفِه.
وقد ترجَمَ البخاريُّ في كتابِه الصحيحِ على هذه الآيةِ: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ}، وذكَرَ فيه أنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ أرسَلَ بهديَّةٍ إلى أخيهِ بمَكَّةَ قبلَ أنْ يُسلِمَ؛ كما في البخاريِّ، عن ابنِ عمرَ -رضي اللَّه عنهما-؛ قال: رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ، فقَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ابْتَعْ هَذِهِ الحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الوَفْدُ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ)، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: (إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا؛ تَبِيعُهَا، أَوْ تَكْسُوهَا)، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ (١).

الإحسانُ إلى الكافرِ بالهديَّةِ وقَبولُ شفاعتِه:
والمشرِكونَ في بابِ الإحسانِ إليهم، والهَدِيَّةِ لهم، والنفقةِ عليهم، علي نوعَيْنِ:
النوعُ الأول: مشرِكونَ مُحارِبونَ؛ فالأصلُ: عدمُ جوازِ الإحسانِ إليهم، والإغلاظُ عليهم، والشِّدَّةُ معهم، وعدمُ اللِّينِ في ذلك؛ لعمومِ قولِهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: ٧٣، والتحريم: ٩]، وقولِه تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: ١٢٣].
---------------
(١) أخرجه البخاري (٢٦١٩).

الصفحة 2133