كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)
وأقوَى ما جاء فيما حرَّمه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على نفسِهِ: العسلُ والجاريةُ، وكلُّ ذلك صحيح، وصحةُ الاثنَيْنِ ليس اضطرابًا؛ وإنَّما وقَعَا جميعًا، ومِثلُ بيتِ النبوَّةِ مع كثرةِ أزواجِه، وتنافُسِهِنَّ عليه، وغِيرَتِهِنَّ بعضِهِنَّ مِن بعضِ: يَحتمِلُ تكرُّرَ مِثلِ هذا، والقرآنُ قد يَنزِلُ على واحدةٍ منهما، أو ينزِلُ عليهما جميعًا.
تحريمُ الحلالِ لا يجعلُهُ حرامًا:
وإذا حرَّم الإنسانُ حلالًا على نَفْسِه، لا يكونُ ما حرَّمه محرَّمًا في نفسِه؛ وإنَّما الحرامُ والحلالُ مِن مصطَلَحاتِ الشريعةِ واختصاصِ المشرِّع؛ وذلك أنَّ اللَّهَ جعَلَ تحريمَ الحرامِ أمرًا لا يمكنُ تحقيقُه؛ فقد سمَّاهُ زُورًا؛ كما في قولِهِ تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: ٢]، والزُّورُ لا يتحقَّقُ، والاستفهامُ في قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استفهامُ إنكارٍ، ويتضمَّنُ إنكارًا؛ لأنَّ مضمونَه إنشاءٌ.
وتحريمُ الحلالِ لا أَثَرَ له على العَيْنِ المحرَّمةِ في ذاتِها، ولا تحرُمُ به مطلقًا باتفاقِ الأئمَّةِ الأربعةِ، خلافًا لقولٍ يُنسَبُ إلى أبي حنيفةَ وميلٍ لأبي الخطَّابِ مِن الحنابلةِ.
وقد ذَمَّ اللَّهُ تحريمَ الحلالِ وتحليلَ الحرامِ وجعَلَهُما في الأمرِ سواءً في مَقَامِ المخالَفةِ لتشريعِه؛ فقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: ١١٦]، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: ٥٩]؛ فلو كان تحريمُ الحلالِ مؤثِّرًا على العَيْنِ لمجرَّدِ تحريمِ الإنسانِ على نفسِه، لجاز أن يكونَ ذلك في تحليلِ الحرامِ، فالتغيُّرُ الذي يَلْحَقُ العَيْنَ تشريعٌ، وليس مجرَّدَ إلزامِ بامتناعِ النَّفْسِ عنها.
الصفحة 2169
2230