كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)
وصلاةُ الليلِ أفضلُ النوافلِ؛ كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ) (١)، وإنَّما فضَّل اللَّهُ نافلةَ الليلِ على بقيَّةِ النوافلِ لأمورٍ؛ أعظَمُها:
الأولُ: أنَّ الليلَ هو وقتُ نزولِ الخالقِ سبحانَهُ إلى السماءِ الدُّنيا، ويبسُطُ يدَهُ ويستجيبُ لمَن دعاهُ أسرَعَ وأعظَمَ مِن بقيَّةِ الأوقاتِ؛ كما في الصحيح، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ قال: (يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا المَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فلا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ) (٢).
الثاني: أنَّ الليلَ محلُّ غفلةِ الناسِ وغفوتِهم، والعبادةُ فيه يخلو بها العبدُ بربِّه؛ وهذا أعظَمُ في خُلُوِّ القلبِ وتجرُّدِه وصِدْقِ لجوئِهِ إلى ربِّه، وعبادةُ الخَفَاءِ أعظَمُ مِن عبادةِ العَلَانِيَةِ، ولا يكادُ يشوبُ عبادةَ قيامِ الليلِ رِياءٌ وسُمْعةٌ كما يشوبُ عبادةَ العلانيَةِ في النهارِ.
الثالثُ: أنَّ في قيامِ الليلِ تثبيتًا للعبدِ وعونًا له مِن ربِّه أشَدَّ مِن غيرِه مِن العباداتِ؛ ولهذا جعَلَهُ اللَّهُ لنبيِّه أولَ أمرٍ في تعبُّدِه لربِّه مِن أركانِ أعمالِهِ.
وقولُه تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا}، فيه: أنَّه لا يُشرَعُ قيامُ الليلِ كاملًا، فلم يَشرَعْهُ اللَّهُ لنبيِّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا لغيرِه؛ حيثُ إنَّ اللَّهَ جعَلَ الليلَ سُباتًا ومَنَامًا وسَكَنًا، وفطَرَ البشرَ على ذلك، ويُستثنى مِن ذلك ما كان اعتراضًا كالأزمِنةِ الفاضلةِ؛ كالعَشْرِ الأواخرِ مِن رمضانَ.
وفي "الصحيحَيْنِ" قصةُ النَّفَرِ الثلاثةِ الذين سألوا عن عبادةِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّهم تَقَالُّوها حتى إنَّ أحدَهم قال: أنا أقومُ ولا أنامُ، فقال
---------------
(١) أخرجه مسلم (١١٦٣).
(٢) أخرجه مسلم (٧٥٨).
الصفحة 2186
2230