كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)
ولا يُشرَعُ أن يُنصِّبَ الإنسانُ نفسَهُ متفرِّغَا للرُّقيةِ كما يتفرَّغ المؤذِّنُ للأذانِ، والإمامُ للإمامةِ، ولم يكنِ السلفُ يَفْعَلونَ ذلك، بل ولا يَستحبُّونَهُ، وهذا يُورِثُ تعلُّقًا بالرَّاقي، وضَعْفًا في التعلُّقِ بكلامِ اللَّهِ، وقد طلبَ رجلٌ إلى سعدِ أبي وقَّاصٍ أن يَرقِيَه، فقال له سعدٌ: أجعلْتَني نبيًّا؟ ! ارْقِ نفسَك.
ولم يكنِ السلفُ يَضْرِبونَ لِمَنْ يأتيهِم مِن المَرْضى آجالًا يتعاهَدونَهم بالزيارةِ لرُقْيَتِهم، وإنْ قَبِلوا ذلك على سبيلِ الاعتراضِ، لا على سبيلِ الانتصابِ لذلك.
ولم يَستَرْقِ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لنفسِه، وقد أذِنَ لغيرِهِ أنْ يَسترقِيَ لغيرِه، وحَثَّ المحتاجَ على ذلك؛ كما في البخاريِّ ومسلمٍ؛ مِن حديثِ أمِّ سلَمةَ -رضي اللَّه عنها-؛ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ، فقال: (اسْتَرْقُوا لَهَا؛ فَإِنَّ بِهَا النَّظرَةَ") (١).
وفَرْقٌ بينَ طلبِ الإنسانِ الرُّقْيةَ لنفسِهِ وبينَ طلبِهِ لغيرِه مِن ولدٍ وزوجةٍ، وإنَّما فضَّل النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عدمَ طلبِ الرُّقيةِ؛ لأنَّ اعتاد ذلك ينافي التوكُّل.
ويُشرَعُ مع الرُّقيةِ النَّفْثُ على المريضِ؛ لِمَا روتْ عائشةُ؛ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم - كان ينفُثُ في رُقْيَتِه، وأصلُه في "الصحيحَيْنِ" (٢)؛ وعندَهما أيضًا مِن حديثِ جابرٍ.
وقد ثبَت التَّفْلُ في السُّنَّة؛ كما في "الصحيحَيْنِ"، مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، وفيه قال: فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ، فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَأَلُوهُ،
---------------
(١) أخرجه البخاري (٥٧٣٩)، ومسلم (٢١٩٧).
(٢) أخرجه البخاري (٤٤٣٩)، ومسلم (٢١٩٢).
الصفحة 2197
2230