كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

فجعَلَ الصلاةَ حائلًا بِينَ الرجُلِ وبينَ الكفرِ، وإنْ ترَكَها بالكليَّةِ، فقد زالَ الحائلُ بينَهما، ودخَلَ الرجُلُ إلى الكفرِ.
وقد جعَلها النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيْصَلًا بينَ مَن أَسْلَمَ وَجهَهُ للَّهِ وبينَ مَن أسلَمَ وَجْهَهُ لغيرِهِ ممَّن نطَقَ الشهادتَيْنِ، فقال كما في السُّننِ: (الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا، فَقَدْ كَفَرَ) (١)، وبهذا كان يقولُ الصحابةُ ويفرِّقونَ بينَهم وبينَ الكفارِ؛ كما قال مجاهدُ بن جَبْرٍ لجابرٍ -رضي اللَّه عنه-: "مَا كَانَ يُفَرِّقُ بَينَ الكُفْرِ وَالْإِيمَانِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: الصَّلَاةُ" (٢).
ويقولُ عبدُ اللَّهِ بنُ شقِيقٍ العُقَيْلِيُّ: "كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ" (٣).
وعلى هذا كان التابعونَ، وكانوا يُطلِقُونَ على التاركِ الكفرَ، كما قال أيُّوبُ: تَرْكُ الصَّلَاةِ كُفْرٌ لا يُخْتَلَفُ فيِهِ (٤).
ولا يُوجَدُ مِن كلامِ الصحابةِ ولا التابعينَ ما يُخرِجُ هذا العمومَ أو يُقيِّدُهُ ويُخصِّصُهُ، إلَّا حملُ ذلك على التَّرْكِ بالكليَّةِ، وأمَّا مَن كان يُؤدِّي بعضَ الصلواتِ ويترُكُ يعضًا، فهذا ليس تاركًا لها بالكليَّةِ؛ وإنَّما يدخُلُ في الوعيدِ في هذه الآيةِ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، وقد جاء عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قَبِلَ إسلامَ مَن لم يُؤدِّ الصلاةَ كلِّها، كما صحَّ عن نَصْرِ بنِ عاصمٍ اللَّيْثِيِّ، عن رجلٍ منهم: "أنَّه أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْلَمَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ
---------------
(١) أخرجه أحمد (٥/ ٣٤٦)، والترمذي (٢٦٢١)؛ والنسائي (٤٦٣)، وابن ماجه (١٠٧٩).
(٢) أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (٨٩٣).
(٣) أخرجه الترمذي (٢٦٢٢).
(٤) أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (٩٧٨).

الصفحة 2214