كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

الوفاءَ بينَ العبادِ والعدلَ بينَهم والتظالُمَ مشابهًا لعدلِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن جهةِ الاشتراكِ المعنويِّ في وجوبِ العدلِ وتحريمِ الظلمِ؛ ففي "صحيحِ مسلمٍ"، عن أبي ذرٍّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن اللهِ - تبارَكَ وتعالى - أنَّه قال: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا. . .) الحديثَ (١).
فدلَّلَ سبحانَه لعبادِهِ على تحريمِ التظالُمِ بكونِهِ محرَّمًا عليه؛ فقد حرَّمَ على نفسِهِ أنْ يَظلِمَ أحدًا بعدمِ إعطائِهِ ما جعلَهُ سبحانَهُ حقًّا له، فكذلك العبادُ فيما بينَهم؛ فالظلمُ إذا حرَّمَهُ اللهُ على نفسِهِ وله حقٌّ تامٌّ على عبادِهِ، فهو بينَ العبادِ المُتساوِينَ مِن بابِ أَولى.
وقولُهُ: (وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا): إشارةٌ إلى العقودِ والعهودِ وشبهِها التي يجبُ فيها الوفاءُ، ويدخُلُ في ذلك حُرْمةُ التعدِّي؛ لأنَّها داخلةٌ في أصلِ ما تعاهَدَتْ عليه البشريَّةُ مِش بَذْلِ الأمانِ ولو عُرْفًا، أو بالتحيةِ التي يبذُلُها بعضُهم لبعضٍ: "السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ".
ثانيًا: أنَّ تفريطَ أحدِ المتعاهدَيْنِ موجِبٌ لسقوطِ حقِّهِ في وفاءِ الآخَرِ له، والعقودُ والعهودُ لها شروطٌ، ومِن حيثُ جهاتُها هي نوعانِ:
النوعُ الأولُ: شروطُ الخالقِ مع المخلوقِ، وهي كشروطِ العباداتِ التي فرَضَها اللهُ معها؛ كشروطِ الصلاةِ ونحوِها؛ فمَن ترَكَ شرطًا متعمِّدًا بلا عذرٍ، بطَلَتْ صلاتُهُ، ولم يستحقَّ الأجرَ؛ كسَتْرِ العورةِ، ومَن ترَكَ شرطًا بعذرٍ؛ كعادمِ الماءِ والترابِ، وعادمِ الثوبِ للعورةِ، فصلاتُهُ صحيحةٌ رحمةً مِن اللهِ ولطفًا.
ولا يُتصوَّرُ الإخلالُ بالشروطِ إلا مِن العبدِ؛ لضعفِهِ وقصورِ أهليَّتِهِ بنسيانٍ وضعفٍ وعجزٍ وعنادٍ.
---------------
(١) سبق تخريجه قريبًا (ص ٤٤).

الصفحة 45