كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سجَدَ في ص، وقال: (سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً، وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا) (١).

سجود التوبة:
وفي هذا أنَّ سجودَ التوبةِ والاستغفارِ صحيحٌ، وسجودُ الشكرِ كذلك، وإنَّما لم يسجُدْ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - هذه السجدةَ توبةً كداودَ، وإنَّما جعَلَها شكرًا؛ لأنَّ طلبَ التوبةِ كان بسببِ عملٍ وقَعَ مِن داودَ، فكانتِ التوبةُ مِن داودَ لا مِن محمدٍ - عليهما السلام -، وإنَّما سجَدَها - صلى الله عليه وسلم - شكرًا؛ لأنَّ اللهَ غفَرَ لنبيِّهِ داودَ ذلك، وقَبِلَ استغفارَهُ , فقد قال بعدَهُ: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: ٢٥] ثمَّ إنَّ اللهَ أمَرَهُ بالاقتداءِ بداودَ وإخوانِهِ وآبائِهِ الأنبياء؛ فقد قالَ اللهُ في إبراهيمَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: ٨٤] , إلى قَوْلِهِ: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: ٨٦]، ثُمَّ قال في الأنبياءِ الذينَ سَمَّاهُمُ اللهُ في هذه الآيةِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠] صلَّى الله عليهم، فكان مِن الاقتداءِ بهم: العملُ كعَمَلِهم، ومنهم داودُ، وإنِ اختلَفَ القصدُ، فيؤدَّى الظاهرُ؛ فذاك سجودُ توبةٍ، وهذا سجودُ، شكرٍ.
ورُوِيَ عن جماعةٍ مِن الصحابةِ سجودُهم شكرًا للهِ عندَ رؤيتِهم أو سماعِهم خبرًا عظيمًا للأُمَّةِ؛ يُروى هذا عن أبي بكرٍ وعمرَ في فتحِ اليَمَامةِ، وعن عليٍّ لمَّا أُتِيَ بالمُخْدَجِ في قتالِهِ؛ رواهُما ابنُ أبي شَيْبةَ (٢).

السجودُ قائمًا:
ويُستحَبُّ لمَن أرادَ السجودَ أن يسجُدَ وهو قائمٌ، وإنْ كان قاعدًا أن يقومَ ثمَّ يسجُدَ؛ فقد جاء عندَ أبي داودَ في "سننِه"؛ مِن حديثِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -؛ قال: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن مَكَّةَ نُرِيدُ المدينةَ،
---------------
(١) أخرجه النسائي (٩٥٧) (٢/ ١٥٩).
(٢) أخرجهما ابن أبي شيبه في "مصنفه" (٨٤١٣) , (٨٤١٥)، (٨٤١٦) (٢/ ٢٢٨).

الصفحة 76