كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 1)

يَفْعَلُ، ثُمَّ كَانَ عَنْ أَصْلِهِ مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ أَشَدَّ عُدُولًا، أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُفَضَّلٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِالِاسْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ إِذَا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِهِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا. فَهَذَا مَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: الرَّحْمَنَ مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: الرَّحِيمَ فِي اللُّغَةِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَالْخَبَرِ، فَفِيهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ اخْتِلَافٌ
فَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ زُفَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَرْزَمِيَّ، يَقُولُ: " {§الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] قَالَ: الرَّحْمَنِ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ. الرَّحِيمِ قَالَ: بِالْمُؤْمِنِينَ "
وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ يَعْنِي الْخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ §عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ: الرَّحْمَنُ: رَحْمَنُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَالرَّحِيمُ: رَحِيمُ الْآخِرَةِ " فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ قَدْ أَنْبَآ عَنْ فَرْقِ مَا بَيْنَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ رَحْمَنٌ، وَتَسْمِيَتِهِ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ رَحِيمٌ. وَاخْتِلَافُ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا -[127]- فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْفَرْقِ، فَدَلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ قَالَ: فَأَيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ أَوْلَى عِنْدَكَ بِالصِّحَّةِ؟ قِيلَ: لِجَمِيعِهِمَا عِنْدَنَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ قَائِلٍ: أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَىَ الَّذِي فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ، دُونَ الَّذِي فِي تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحِيمِ؛ هُوَ أَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحْمَنِ مَوْصُوفٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ جَمِيعَ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحِيمِ مَوْصُوفٌ بِخُصُوصِ الرَّحْمَةِ بَعْضَ خَلْقِهِ، إِمَّا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. فَلَا شَكَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَنَّ ذَلِكَ الْخُصُوصَ الَّذِي فِي وَصْفِهِ بِالرَّحِيمِ لَا يَسْتَحِيلُ عَنْ مَعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا. فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ خَصَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِمَا لَطَفَ بِهِمْ فِي تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ؛ مِمَّا خَذَلَ عَنْهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَكَفَرَ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَرَكِبَ مَعَاصِيَهُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا أَعَدَّ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْفَوْزِ الْمُبِينِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ رُسُلَهُ وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ خَالِصًا دُونَ مَنْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ بِهِ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ مَا قَدْ عَمَّهُمْ بِهِ وَالْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا، مِنَ الْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فِي الْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ، وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ بِالْغَيْثِ، وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْعُقُولِ، وَسَائِرِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ. فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَحْمَنُ -[128]- جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخَرَةِ. وَرَحِيمُ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَأَمَّا الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ، فَكَانَ رَحْمَانًا لَهُمْ بِهِ، فَمَا ذَكَرْنَا مَعَ نَظَائِرِهِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِحْصَائِهَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَالَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ، فَكَانَ لَهُمْ رَحْمَانًا تَسْوِيَتُهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي عِدْلِهِ وَقَضَائِهِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنَّ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. فَذَلِكَ مَعْنَى عُمُومِهِ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ رَحْمَانًا فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ فِيهَا، كَمَا قَالَ جَلُّ ذِكْرُهُ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] فَمَا وَصَفْنَا مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، فَخَصَّهُمْ بِهِ دُونَ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ. وَأَمَّا مَا خَصَّهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ دُونَ الْكَافِرِينَ. فَمَا وَصَفْنَا آنِفًا مِمَّا أَعَدَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْهَا الْأَمَانِي. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَهُوَ مَا

الصفحة 126