كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 1)

§الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
§يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَلْبِسُوا} [البقرة: 42] لَا تَخْلِطُوا، وَاللَّبْسُ: هُوَ الْخَلْطُ، يُقَالُ مِنْهُ: لَبَّسْتُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ أُلَبِّسُهُ لَبْسًا: إِذَا خَلَطْتُهُ عَلَيْهِمْ
كَمَا حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {§وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يَقُولُ: لَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ " وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز]
لَمَّا لَبِسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي ... غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَبِسْنَ: خَلَطْنَ. وَأَمَّا اللُّبْسِ فَإِنَّهُ يُقَالُ مِنْهُ: لَبِسْتُهُ أَلْبَسُهُ لُبْسًا وَمَلْبَسًا، وَذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ يَكْتَسِيهَا فَيَلْبَسُهَا. -[606]- وَمِنَ اللُّبْسِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
[البحر البسيط]
لَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الدَّهْرِ أَعْصُرَهُ ... حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ وَاشْتَعَلَا
وَمِنَ اللُّبْسِ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ كَانُوا يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَأَيُّ حَقٍّ كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ؟ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ مِنْهُمْ يُظْهِرُونَ التَّصْدِيقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَبْطِنُونَ الْكُفْرَ بِهِ وَكَانَ عُظْمُهُمْ يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَّا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِنَا. فَكَانَ لُبْسُ الْمُنَافِقِ مِنْهُمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِظْهَارَهُ الْحَقَّ بِلِسَانِهِ وَإِقْرَارَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ جِهَارًا، وَخُلْطَةُ ذَلِكَ الظَّاهِرِ مِنَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَسْتَبْطِنُهُ. وَكَانَ لُبْسُ الْمُقِرِّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِهِمُ الْجَاحِدِ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ إِقْرَارَهُ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْحَقُّ، وَجُحُودُهُ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الْبَاطِلُ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً. فَذَلِكَ خَلْطُهُمْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلُبْسُهُمْ إِيَّاهُ بِهِ

الصفحة 605