كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 1)

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قِيلِهِ خِلَافُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " إِنَّ §اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى خَمْسَةِ أَحْرُفٍ: حَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ، فَأَحِلَّ الْحَلَالَ وَحَرِّمِ الْحَرَامَ، وَاعْمَلْ بِالْمُحْكَمِ، وَآمِنْ بِالْمُتَشَابِهِ، وَاعْتَبِرْ بِالْأَمْثَالِ " وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِيِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فُلَانٌ مُقِيمٌ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ هَذَا الْأَمْرِ؛ وَفُلَانٌ مُقِيمٌ عَلَى وَجْهٍ مِنْ وجُوهِ هَذَا الْأَمْرِ، وَفُلَانٌ مُقِيمٌ عَلَى حَرْفٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَفَ قَوْمًا عَبَدُوهُ، عَلَى وَجْهٍ مِنْ وجُوهِ الْعِبَادَاتِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] يَعْنِي أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ، لَا عَلَى الْيَقِينِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ؛ فَكَذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ، وَنَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ سَوَاءٌ، مَعْنَاهُمَا مُؤْتَلِفٌ، وَتَأْوِيلُهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ: الْخَبَرُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَّا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ وَأُمَّتِهِ، مِنَ الْفَضِيلَةِ وَالْكَرَامَةِ -[65]- الَّتِي لَمْ يُؤْتِهَا أَحَدًا فِي تَنْزِيلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كِتَابٍ تَقَدَّمَ كِتَابَنَا نُزُولُهُ، عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، مَتَى حُوِّلَ إِلَى غَيْرِ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ تَرْجَمَةً وَتَفْسِيرًا، لَا تِلَاوَةً لَهُ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ كِتَابَنَا بِأَلْسُنٍ سَبْعَةٍ، بِأَيِّ تِلْكَ الْأَلْسُنِ السَّبْعَةِ تَلَاهُ التَّالِي، كَانَ لَهُ تَالِيًا عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، لَا مُتَرْجَمًا وَلَا مُفَسَّرًا، حَتَّى يُحَوِّلَهُ عَنْ تِلْكِ الْأَلْسُنِ السَّبْعَةِ إِلَى غَيْرِهَا، فَيَصِيرُ فَاعِلُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ إِذَا أَصَابَ مَعْنَاهُ مُتَرْجِمًا لَهُ، كَمَا كَانَ التَّالِي لِبَعْضِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، إِذَا تَلَاهُ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، لَهُ مُتَرْجِمًا لَا تَالِيًا عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِ. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ نَزَلَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ نَزَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ» فَإِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنَى بِقَوْلِهِ: نَزَلَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا نَزَلَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، عَلَى مَنْ أَنْزَلَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ خَالِيًا مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَزَبُورِ دَاوُدَ، الَّذِي إِنَّمَا هُوَ تَذْكِيرٌ وَمَوَاعِظٌ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى، الَّذِي هُوَ تَمْجِيدٌ وَمَحَامِدُ وَحَضٌّ عَلَى الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَتْ بِبَعْضِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ الَّتِي يَحْوِي جَمِيعَهَا كِتَابُنَا الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتَهُ. فَلَمْ يَكُنِ الْمُتَعَبِّدُونَ بِإِقَامَتِهِ، يَجِدُونَ لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَطْلَبًا يَنَالُونَ بِهِ الْجَنَّةَ، -[66]- وَيَسْتَوْجِبُونَ مِنْهُ الْقُرْبَةَ، إِلَّا مِنَ الْوَجْهِ الْوَاحِدِ، الَّذِي أُنْزِلَ بِهِ كِتَابُهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، الَّذِي نَزَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَخَصَّ اللَّهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتَهُ، بِأَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ، عَلَى أَوْجُهٍ سَبْعَةٍ، مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ، وَيَدْرِكُونَ بِهَا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، إِذَا أَقَامُوهَا؛ فَلِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهِهِ السَّبْعَةِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الَّذِي نَزَلَ مِنْهُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْعَامِلَ بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهِهِ السَّبْعَةِ، عَامَلٌ فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَطَالِبٌ مِنْ قِبَلِهِ الْفَوْزَ بِهَا، وَالْعَمَلَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةَ، وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ بَابٌ آخَرُ ثَانٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَتَحْلِيلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِيهِ بَابٌ ثَالِثٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِيهِ بَابٌ رَابِعٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَالْإِيمَانُ بِمُحْكَمِهِ الْمُبِينِ بَابٌ خَامِسٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَالتَّسْلِيمُ لِمُتَشَابِهِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَحَجَبَ عِلْمَهُ عَنْ خَلْقِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بَابٌ سَادِسٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَالِاعْتِبَارُ بِأَمْثَالِهِ وَالِاتِّعَاظُ بِعِظَاتِهِ بَابٌ سَابِعٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ، مِنْ حُرُوفِهِ السَّبْعَةِ، وَأَبْوَابِهِ السَّبْعَةِ، الَّتِي نَزَلَ مِنْهَا، جَعَلَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، إِلَى رِضْوَانِهِ هَادِيًا، وَلَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ قَائِدًا. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْقُرْآنِ: «إِنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ حَدًّا» يَعْنِي لِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ -[67]- أَوْجُهِهِ السَّبْعَةِ حَدٌّ حَدَّهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا ظَهْرًا وبَطْنًا» فَظَهْرُهُ الظَّاهِرُ فِي التِّلَاوَةِ، وَبَطْنُهُ مَا بَطَنَ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَقَوْلُهُ: «وَإِنَّ لِكُلِّ حَدٍّ مِنْ ذَلِكَ مُطَّلَعًا» فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا فِيهِ، مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَسَائِرِ شَرَائِعِهِ، مِقْدَارًا مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، يُعَايُنُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَيُلَاقِيهِ فِي الْقِيَامَةِ. كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَوْ أَنَّ لِيَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ» يَعْنِي بِذَلِكَ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَيَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ

الصفحة 64