كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 1)

مُوسَى: انْطَلِقُوا إِلَى مَوْعِدِ رَبِّكُمْ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى أَمَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بَلَى {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54] الْآيَةُ. فَاخْتَرَطُوا السُّيُوفَ وَالْجِرَزَةَ وَالْخَنَاجِرَ وَالسَّكَاكِينَ. قَالَ: وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ ضَبَابَةً، قَالَ: فَجَعَلُوا يَتَلَامَسُونَ بِالْأَيْدِي، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ: وَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ فَيَقْتُلُهُ وَلَا يَدْرِي، وَيَتَنَادَوْنَ فِيهَا: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَبَرَ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّهَ رِضَاهُ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33] قَالَ: فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ، وَتِيبَ عَلَى أَحْيَائِهِمْ. وَقَرَأَ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54] " فَالَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ الْأَخْبَارَ الَّتِي رُوِّينَاهَا كَانَ تَوْبَةَ الْقَوْمِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي أَتَوْهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ مَعَ نَدَمِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ
§وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: ارْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ خَالِقِكُمْ وَإِلَى مَا يُرْضِيهِ عَنْكُمْ
كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: " {§فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] أَيْ إِلَى خَالِقِكُمْ " وَهُوَ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَبْرَؤُهُ فَهُوَ بَارِئٌ وَالْبَرِيَّةُ: -[686]- الْخَلْقُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُهْمَزُ كَمَا لَا يُهْمَزُ مَلَكٌ، وَهُوَ مِنْ لَأَكَ، لَكِنَّهُ جَرَى بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ، كَذَلِكَ قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ:
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ ... قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَرِيَّةَ إِنَّمَا لَمْ تُهْمَزْ لِأَنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنَ الْبَرَى، وَالْبَرَى: التُّرَابُ فَكَأَنْ تَأْوِيلَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُخِذَتِ الْبَرِيَّةُ مِنْ قَوْلِكَ بَرَيْتُ الْعُودَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُهْمَزْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَرْكُ الْهَمْزِ مِنْ بَارِئِكُمْ جَائِزٌ، وَالْإِبْدَالُ مِنْهَا جَائِزٌ، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي بَارِيكُمْ فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْبَرِيَّةُ مِنْ بَرَى اللَّهُ الْخَلْقَ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ

الصفحة 685