كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 3)

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ فِي رَجُلٍ قَتَلَ امْرَأَتَهُ عَمْدًا، فَأَتَوْا بِهِ عَلِيًّا، فَقَالَ «§إِنْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَرُدُّوا فَضْلَ دِيَةِ الرَّجُلِ عَلَى دِيَةِ الْمَرْأَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حَالِ مَا نَزَلَتْ وَالْقَوْمُ لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ حَتَّى سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ حُكْمِ جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَجَعَلَ جَمِيعَهُمْ قَوَدَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ {§وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّفْسُ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُسْتَوِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، رِجَالُهُمْ، وَنِسَاؤُهُمْ " فَإِذْ كَانَ مُخْتَلِفًا الِاخْتِلَافَ الَّذِي وَصَفْتُ فِيمَا نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ بِالْخَبَرِ الْقَاطِعِ الْعُذْرِ. وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْعَامِّ أَنَّ نَفْسَ الرَّجُلِ الْحُرِّ قَوَدٌ قِصَاصًا -[101]- بِنَفْسِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْأَمَةُ مُخْتَلِفَةً فِي التَّرَاجُعِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَكَانَ وَاضِحًا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ وَالتَّرَاجُعِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الدِّيَتَيْنِ بِإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُتْلِفَ مِنْ جَسَدِهِ عُضْوًا بِعُوضٍ يَأْخُذُهُ عَلَى إِتْلَافِهِ فَدَعْ جَمِيعَهُ، وَعَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ إِتْلَافُ شَيْءٍ مِنْهُ مِثْلِ الَّذِي حُرِّمَ مِنْ ذَلِكَ بِعُوضٍ يُعْطِيهُ عَلَيْهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الرَّجُلِ الْحُرِّ بِنَفْسِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ قَوَدًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] أَنْ لَا يُقَادَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَأَنْ لَا تُقْتَلُ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، وَلَا الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الْآيَةَ مَعْنِيُّ بِهَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرِينَ: إِمَّا قَوْلُنَا مِنْ أَنْ لَا يَتَعَدَّى بِالْقِصَاصِ إِلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْجَانِي، فَيُؤْخَذُ بِالْأُنْثَى الذَّكَرُ، وَبِالْعَبْدِ الْحُرُّ. وَإِمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ خَاصَّةً أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ دِيَاتِ قَتْلَاهُمْ قِصَاصًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُقَاصَّةَ فِي الْحُقُوقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْضِ فِي ذَلِكَ قَضَاءً ثُمَّ نَسَخَهُ، وَإِذَا كَانَ -[102]- كَذَلِكَ، وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُ فَرْضٌ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْقَوْلَ خِلَافُ مَا قَالَهُ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، لِأَنَّ مَا كَانَ فَرْضًا عَلَى أَهْلِ الْحُقُوقِ أَنْ يَفْعَلُوهَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ فِيهِ، وَالْجَمِيعُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ لِأَهْلِ الْحُقُوقِ الْخِيَارَ فِي مُقَاصَّتِهِمْ حُقُوقَهُمْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قُلْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِذْ ذَكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] بِمَعْنَى: فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ: لَا يُعْرَفُ لِقَوْلِ الْقَائِلِ «كُتِبَ» مَعْنًى إِلَّا مَعْنَى خُطَّ ذَلِكَ فَرَسَمَ خَطًّا وَكِتَابًا، فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «كُتِبَ» فَرْضٌ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَوْجُودٌ، وَفِي أَشْعَارِهِمْ مُسْتَفِيضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الخفيف]

كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْمُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وَقَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي جَعْدَةَ:
[البحر البسيط]

يَا بِنْتَ عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُمْ فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا
وَذَلِكَ أَكْثَرُ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ مِنْ أَنْ يُحْصَى. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى فُرِضَ، فَإِنَّهُ عِنْدِي مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ رَسْمٌ وَخَطٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَتَبَ جَمِيعَ مَا فُرِضَ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا هُمْ عَامِلُوهُ -[103]- فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] وَقَالَ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77] فَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا فَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَكْتُوبٌ، فَمَعْنَى قَوْلِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى فَرْضًا أَنْ لَا تَقْتُلُوا بِالْمَقْتُولِ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَاصَصْتُ فُلَانًا حَقِّي قِبَلَهُ مِنْ حَقِّهِ قِبَلِي قِصَاصًا، وَمُقَاصَّةً، فَقَتْلُ الْقَاتِلِ بِالَّذِي قَتَلَهُ قِصَاصٌ، لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ مِثْلُ الَّذِي فَعَلَ بِمَنْ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ عُدْوَانًا وَالْآخَرُ حَقًّا فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ فَعَلَ بِصَاحِبِهِ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ صَاحِبُهُ بِهِ، وَجَعَلَ فِعْلَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ إِذَا قَتَلَ قَاتِلَ وَلِيِّهِ قِصَاصًا، إِذْ كَانَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ اسْتَحَقَّ قَتْلَ مَنْ قَتَلَهُ، فَكَأَنَّ وَلِيَّهُ الْمَقْتُولَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ قَتْلَ قَاتِلِهِ فَاقْتَصَّ مِنْهُ. وَأَمَّا الْقَتْلَى فَإِنَّهَا جَمْعُ قَتِيلٍ، كَمَا الصَّرْعَى جَمْعُ صَرِيعٍ، وَالْجَرْحَى جَمْعُ جَرِيحٍ. وَإِنَّمَا يُجْمَعُ الْفَعِيلُ عَلَى الْفَعْلَى، إِذَا كَانَ صِفَةً لِلْمَوْصُوفِ بِهِ بِمَعْنَى الزَّمَانَةِ، وَالضَّرَرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مَعَهُ صَاحِبُهُ عَلَى الْبَرَاحِ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَمَصْرَعِهِ، نَحْوَ الْقَتْلَى فِي -[104]- مَعَارِكِهِمْ، وَالصَّرْعَى فِي مَوَاضِعِهِمْ، وَالْجَرْحَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: فَرْضٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى أَنْ يَقْتَصَّ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. ثُمَّ تَرَكَ ذِكْرَ أَنْ يَقْتَصَّ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] عَلَيْهِ

الصفحة 100