كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 5)

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا قَوْلُهُ: {§وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] «فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا، ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَعَاذَ بِهَا، ثُمَّ لَقِيَهُ أَخُو الْمَقْتُولِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَبَدًا أَنْ يَقْتُلَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلَهُ يَكُنْ آمِنًا مِنَ النَّارِ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا رُزَيْقُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: ثنا زِيَادُ بْنُ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، فِي قَوْلِهِ: {§وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] قَالَ: «آمِنًا مِنَ النَّارِ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَمَنْ قَالَ مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلَهُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَجَأَ إِلَيْهِ عَائِذًا بِهِ كَانَ آمِنًا مَا كَانَ فِيهِ، -[607]- وَلَكِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَ أَصَابَ مَا يَسْتَوْجِبُهُ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ يُدْخُلْهُ مِنَ النَّاسِ مُسْتَجِيرًا بِهِ يَكُنْ آمِنًا مِمَّا اسْتَجَارَ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا مَنَعَكَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ؟ قِيلَ: لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ جَرِيرَتُهُ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ عَاذَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِجَرِيرَتِهِ فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ لِأَخْذِهِ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صِفَةُ ذَلِكَ مَنْعُهُ الْمَعَانِي الَّتِي يُضْطَرُّ مَعَ مَنْعِهِ وَفَقْدِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا صِفَةَ لِذَلِكَ غَيْرَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُوصِلُ إِلَى إِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ مَعَهَا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: غَيْرُ جَائِزٍ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ، فَأَمَّا مَنْ أَصَابَ الْحَدَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ، فَكِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ أَصْلٌ مُجْمَعٌ عَلَى حُكْمِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا دَلَالَتُكَ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَائِذِ بِالْبَيْتِ إِذَا أَتَاهُ مُسْتَجِيرًا بِهِ مِنْ جَرِيرَةٍ جَرَّهَا أَوْ مِنْ حَدٍّ أَصَابَهُ مِنَ الْحَرَمِ جَائِزٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَأَخَذِهِ بِالْجَرِيرَةِ، وَقَدْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ مَنْ دَخَلَهُ آمِنًا، وَمَعْنَى الْآمِنِ غَيْرُ مَعْنَى الْخَائِفِ، فِيمَا هُمَا فِيهِ مُخْتَلِفَانِ؟ -[608]- قِيلَ: قُلْنَا ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَائِذِ بِهِ مِنْ جَرِيرَةٍ أَصَابَهَا أَوْ فَاحِشَةٍ أَتَاهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِهِ عُقُوبَةٌ مِنْهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الْإِخْرَاجِ لِأَخْذِهِ بِمَا لَزِمَهُ، وَاجِبٌ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعَهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يُخْرَجُ بِهِ مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: السَّبَبُ الَّذِي يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِهِ مِنْهُ تَرْكُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مُبَايَعَتَهُ وَإِطْعَامَهُ وَسَقْيَهُ وَإِيَواءَهُ وَكَلَامَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا قَرَارَ لِلْعَائِذِ بِهِ فِيهِ مَعَ بَعْضِهَا، فَكَيْفَ مَعَ جَمِيعِهَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ إِخْرَاجُهُ لِإِقَامَةِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَاجِبٌ بِكُلِّ مَعَانِي الْإِخْرَاجِ، فَلَمَّا كَانَ إِجْمَاعًا مِنَ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ - فِيمَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ مِنْ حَدٍّ أَصَابَهُ أَوْ جَرِيرَةٍ جَرَّهَا إِخْرَاجُهُ مِنْهُ لِإِقَامَةِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِهِ مِنْهُ كَانَ اللَّازِمُ لَهُمْ وَلِإِمَامِهِمْ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ بِأَيِّ مَعْنًى أَمْكَنَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ الَّذِي لَزِمَهُ خَارِجًا مِنْهُ إِذَا كَانَ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ. وَبَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ حَدًّا مِنْ حُدُودِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ أَجْلِ بُقْعَةٍ وَمَوْضِعٍ صَارَ إِلَيْهَا مَنْ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» وَلَا خِلَافَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ -[609]- أَنَّ عَائِذًا لَوْ عَاذَ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ بَحَرَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَاخَذُ بِالْعُقُوبَةِ فِيهِ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرْتُ مِنْ إِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ حَرَمَ إِبْرَاهِيمَ لَا يُقَامُ فِيهِ عَلَى مَنْ عَاذَ بِهِ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ حَتَّى يُخْرَجَ مِنْهُ مَا لَزِمَهُ، لَكَانَ أَحَقَّ الْبِقَاعِ أَنْ تُؤَدَّى فِيهِ فَرَائِضُ اللَّهِ الَّتِي أَلْزَمْهَا عِبَادَهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ أَعْظَمُ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ كَحَرَمِ اللَّهِ وَحَرَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّا أُمِرْنَا بِإِخْرَاجِ مَنْ أُمِرْنَا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ حَرَمِ اللَّهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِ الْأُمَّةِ ذَلِكَ وِرَاثَةً. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مَا كَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ عَائِذًا بِهِ، فَهُوَ آمِنٌ مَا كَانَ بِهِ حَتَّى يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى الْخَوْفِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ هُوَ غَيْرُ دَاخِلِهِ، وَلَا هُوَ فِيهِ

الصفحة 606