كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 5)
اللَّهِ عَلَيْكُمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كِتَابِهِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] حُجَّةٌ أُخْرَى عَلَيْكُمْ لِلَّهِ، مَعَ آيِ كِتَابِهِ، يَدْعُوكُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ، وَيُبَصِّرُكُمُ الْهُدَى وَالرَّشَادَ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، يَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَا وَجْهُ عُذْرِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي جُحُودِكُمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَارْتِدَادِكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَرُجُوعِكُمْ إِلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِكُمْ، إِنْ أَنْتُمْ رَاجَعْتُمْ ذَلِكَ وَكَفَرْتُمْ، وَفِيهِ هَذِهِ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ، وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ، عَلَى خَطَأِ فِعْلِكُمْ ذَلِكَ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {§وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران: 101] الْآيَةَ، " عِلْمَانِ بِيِّنَانِ: وُجْدَانُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِتَابُ اللَّهِ؛ فَأَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ فَمَضَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ، فَأَبْقَاهُ اللَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَطَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ " وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَمَنْ يَتَعَلَّقْ بِأَسْبَابِ اللَّهِ، وَيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ، {فَقَدْ هُدِيَ} [آل عمران: 101] يَقُولُ: فَقَدْ وُفِّقَ لِطَرِيقٍ وَاضِحٍ وَمَحَجَّةٍ مُسْتَقِيمَةٍ غَيْرِ مُعْوَجَّةٍ، فَيَسْتَقِيمُ بِهِ إِلَى رِضَا اللَّهِ وَإِلَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْفَوْزِ بِجَنَّتِهِ
كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {§وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ} [آل عمران: 101] قَالَ: «يُؤْمِنْ بِاللَّهِ» -[635]- وَأَصْلُ الْعَصْمِ: الْمَنْعُ، فَكُلُّ مَانِعٍ شَيْئًا فَهُوَ عَاصِمُهُ، وَالْمُمْتَنِعُ بِهِ مُعْتَصِمٌ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
[البحر الوافر]
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي تَمِيمٍ ... إِذَا مَا أَعْظَمَ الْحَدَثَانِ نَابَا
وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْحَبْلِ: عِصَامٌ، وَلِلَّسَبِبِ الَّذِي يَتَسَبَّبُ بِهِ الرَّجُلُ إِلَى حَاجَتِهِ: عِصَامٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
[البحر المتقارب]
إِلَى الْمَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى ... وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عُصُمْ
يَعْنِي بِالْعُصُمِ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ الذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ، يُقَالُ مِنْهُ: اعْتَصَمْتُ بِحَبْلٍ مِنْ فُلَانٍ، وَاعْتَصَمْتُ حَبْلًا مِنْهُ، وَاعْتَصَمْتُ بِهِ وَاعْتَصَمَهُ، وَأَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ إِدْخَالُ الْبَاءِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] ، وَقَدْ جَاءَ «اعْتَصَمْتُهُ» ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
إِذَا أَنْتَ جَازَيْتَ الْإِخَاءَ بِمِثْلِهِ ... وَآسَيْتَنِي ثُمَّ اعْتَصَمْتُ حِبَالِيَا
فَقَالَ: «اعْتَصَمْتُ حِبَالِيَا» ، وَلَمْ يُدْخِلِ الْبَاءَ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: تَنَاوَلْتُ الْخِطَامَ وَتَنَاوَلْتُ بِالْخِطَامِ، وَتَعَلَّقْتُ بِهِ وَتَعَلَّقْتُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَعَلَّقْتَ هِنْدًا نَاشِئًا ذَاتَ مِئْزَرٍ ... وَأَنْتَ وَقَدْ فَارَقْتَ لَمْ تَدْرِ مَا الْحِلْمُ
-[636]- وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الْهُدَى وَالصِّرَاطِ وَأَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الَّذِيَ نَزَلَ فِي سَبَبِ تَحَاوُزِ الْقَبِيلَتَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَانَ مِنْهُ قَوْلُهُ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران: 101]
الصفحة 634