كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 8)
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَكُلُوا مِمَّا رِزْقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88] يَعْنِي: «§مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ»
§وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَخَافُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَعْتَدُوا فِي حُدُودِهِ، فَتُحِلُّوا مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَتُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ لَكُمْ، وَاحْذَرُوهُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُخَالِفُوهُ فَيَنْزِلُ بِكُمْ سَخَطُهُ، أَوْ تَسْتَوْجِبُوا بِهِ عُقُوبَتَهُ. {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] يَقُولُ: الَّذِي أَنْتُمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ مُقِرُّونَ، وَبِرُبُوبِيَّتِهِ مُصَدِّقُونَ.
§الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الطَّيِّبَاتِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا حَرَّمُوا ذَلِكَ بِأَيْمَانٍ حَلَفُوا بِهَا، فَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهَا، وَقَالَ لَهُمْ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ رَبُّكُمْ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " §لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا الَّتِي حَلَفْنَا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الْآيَةَ " فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَيْمَانٍ حَلَفُوا بِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمْ -[617]- وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، بِمَعْنَى: وَكَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ وَرَدَّدْتُمُوهَا. وَقُرَّاءُ الْكُوفِيِّينَ: (بِمَا عَقَدْتُمُ الْأَيْمَانَ) بِتَخْفِيفِ الْقَافِ، بِمَعْنَى: أَوْجَبْتُمُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَعَزَمَتْ عَلَيْهَا قُلُوبُكُمْ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ تَسْتَعْمِلُ فَعَّلْتُ فِي الْكَلَامِ، إِلَّا فِيمَا يَكُونُ فِيهِ تَرَدُّدٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: شَدَّدْتُ عَلَى فُلَانٍ فِي كَذَا إِذَا كَرَّرَ عَلَيْهِ الشَّدَّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ فَعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً قِيلَ: شَدَدْتُ عَلَيْهِ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي تَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ تَلْزَمُ بِالْحِنْثِ فِي حَلِفِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ لَمْ يُكَرِّرْهَا الْحَالِفُ مَرَّاتٍ، وَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مُؤَاخِذٌ الْحَالِفَ الْعَاقِدَ قَلْبَهُ عَلَى حَلِفِهِ وَإِنْ لَمْ يُكَرِّرْهُ وَلَمْ يُرَدِّدْهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَشْدِيدِ الْقَافِ مِنْ عَقَّدْتُمْ وَجْهٌ مَفْهُومٌ. فَتَأْوِيلِ الْكَلَامِ إِذَنْ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَيْمَانُكُمْ بِمَا لَغَوْتُمْ فِيهِ، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْهَا وَعَقَدَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْيَمِينَ الَّتِي هِيَ لَغْوٌ وَالَّتِي اللَّهُ مُؤَاخِذٌ الْعَبْدَ بِهَا، وَالَّتِي فِيهَا الْحِنْثُ وَالَّتِي لَا حِنْثَ فِيهَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَكَرِهْنَا إِعَادَةَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
الصفحة 616