كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 17)

ثَنَاؤُهُ: فَكَيْفَ يُكَذِّبُونَهُ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ فِيهِمْ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ. {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 70] . يَقُولُ: أَيَقُولُونَ بِمُحَمَّدٍ جُنُونٌ، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ , وَلَا يَفْهَمُ وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَكَذِبُهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَجْنُونَ يَهْذِي فَيَأْتِي مِنَ الْكَلَامِ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا يُعْقَلُ وَلَا يُفْهَمُ، وَالَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي لَا أَحْكَمَ مِنْهَا , وَالْحَقُّ الَّذِي لَا تَخْفَى صِحَّتُهُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَلَامُ مَجْنُونٍ؟
§وَقَوْلُهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُحَمَّدًا بِالصِّدْقِ , وَلَا أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَهُمْ مَجْنُونٌ، بَلْ قَدْ عَلِمُوهُ صَادِقًا مُحِقًّا فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لِلْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ , وَلِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ سَاخِطُونَ، حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُ , وَبَغْيًا عَلَيْهِ وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ
§الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ عَمِلَ الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَا يَهْوَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ , وَأَجْرَى التَّدْبِيرَ عَلَى مَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ , وَتَرَكَ الْحَقَّ الَّذِي هُمْ لَهُ كَارِهُونَ، لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ , وَالصَّحِيحَ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالْفَاسِدَ. فَلَوْ كَانَتِ الْأُمُورُ جَارِيَةً عَلَى مَشِيئَتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ مَعَ إِيثَارِ أَكْثَرِهِمُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، لَمْ تَقِرَّ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَامَ بِالْحَقِّ -[89]- وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

الصفحة 88