كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 21)

الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَاهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَثْبَتَ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] مَوْتَةً مِنْ نَوْعِ الْأُولَى هُمْ ذَائِقُوهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَّنَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ إِذَا هُمْ دَخَلُوهَا مِنَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْتُ مِنْ مَعْنَاهُ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ تُوضَعَ «إِلَّا» فِي مَوْضِعِ «بَعْدَ» لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ رَجُلًا إِلَّا رَجُلًا عِنْدَ عَمْرٍو قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ رَجُلًا بَعْدَ كَلَامِ الرَّجُلِ الَّذِي عِنْدَ عَمْرٍو وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ عِنْدَ عَمْرٍو، قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ رَجُلًا إِلَّا رَجُلًا عِنْدَ عَمْرٍو، فَبَعْدَ، وَإِلَّا: مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ تَضَعَ الْكَلِمَةَ مَكَانَ غَيْرِهَا إِذَا تَقَارَبَ مَعْنَيَاهُمَا، وَذَلِكَ كَوَضْعِهِمُ الرَّجَاءَ مَكَانَ الْخَوْفِ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّجَاءِ مِنَ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَيْسَ بِيَقِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ طَمَعٌ، وَقَدْ يَصْدُقُ وَيَكْذِبُ كَمَا الْخَوْفُ يَصْدُقُ أَحْيَانًا وَيَكْذِبُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
إِذَا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ
فَقَالَ: لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا، وَمَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ: لَمْ يَخَفْ لَسْعَهَا، وَكَوَضْعِهِمُ الظَّنَّ مَوْضِعَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ مِنْ قِبَلِ الْعِيَانِ، وَإِنَّمَا أُدْرِكَ اسْتِدْلَالًا أَوْ خَبَرًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
بِمَعْنَى: أَيْقِنُوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ وَاعْلَمُوا، فَوَضَعَ الظَّنَّ مَوْضِعَ الْيَقِينِ، إِذْ لَمْ يَكُنِ

الصفحة 68