كتاب تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (اسم الجزء: 21)

الْمَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ قَدْ عَايَنُوا أَلْفَيْ مُدَجَّجٍ، وَلَا رَأَوْهُمْ، وَإِنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ هَذَا الْمُخْبِرُ، فَقَالَ لَهُمْ ظُنُّوا الْعِلْمَ بِمَا لَمْ يُعَايَنْ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ، فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا فِي نَظَائِرَ لِمَا ذَكَرْتُ يَكْثُرُ إِحْصَاؤُهَا، كَمَا يَتَقَارَبُ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، وَهُمَا مُخْتَلِفَتَا الْمَعْنَى فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ، فَتَضَعُ الْعَرَبُ إِحْدَاهُمَا مَكَانَ صَاحِبَتِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَقَارَبُ مَعْنَيَاهُمَا فِيهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] وَضَعَتْ «إِلَّا» فِي مَوْضِعٍ «بَعْدَ» لِمَا نَصِفُ مِنْ تَقَارُبِ مَعْنَى «إِلَّا» ، وَ «بَعْدَ» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] إِنَّمَا مَعْنَاهُ: بَعْدَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَّا إِذَا وَجَّهْتُ «إِلَّا» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى مَعْنَى سِوَى، فَإِنَّمَا هُوَ تَرْجَمَةٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَبَيَانٌ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَشَدُّ الْتِبَاسًا عَلَى مَنْ أَرَادَ عِلْمَ مَعْنَاهَا مِنْهَا
§وَقَوْلُهُ: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 57] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَقَى هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ رَبُّهُمْ يَوْمَئِذٍ عَذَابَ النَّارِ تَفَضُّلًا يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُمْ بِجُرْمٍ سَلَفَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْلَا تَفَضُّلُهُ عَلَيْهِمْ بِصَفْحِهِ لَهُمْ عَنِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَلَكِنْ كَانَ يَنَالُهُمْ وَيُصِيبُهُمْ أَلَمُهُ وَمَكْرُوهُهُ
§وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي وَصَفْتُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، هُوَ الْفَوْزُ -[70]- الْعَظِيمُ: يَقُولُ: هُوَ الظَّفَرُ الْعَظِيمُ بِمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ إِدْرَاكِهِ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَاتِّقَائِهِمْ إِيَّاهُ، فِيمَا امْتَحَنَهُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ

الصفحة 69