كتاب تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (اسم الجزء: 1)

وكانوا يتناظرون في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، بالأدلة المرضيَّة والحُجَج القويَّة، حتى كان قلَّ مجلسٌ يجتمعون فيه (¬١) إلا ظهر الصواب، ورجع راجعون إليه؛ لاستدلال المستدلِّ بالصّحيح من الدلائل، وعِلْمِ المنازعِ (¬٢) أنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل. كمجادلة الصّدّيق لمن نازعه في قتال مانعي الزَّكاة حتى رجعوا إليه، ومناظرتِهم في جَمْع المُصحف حتى اجتمعوا عليه، وتناظُرِهم (¬٣) في حدِّ الشّارب وجاحد التحريم، حتى هُدوا إلى الصراط المستقيم. وهذا وأمثاله يجلُّ عن العدِّ والإحصاء، فإنَّه أكثرُ من نجوم السّماء.
ثم صار المتأخِّرون بعد ذلك قد يتناظرون في (¬٤) أنواع التأويل والقياس بما يُؤثِّر في ظنِّ بعض الناس، وإن كان عند (¬٥) التحقيق يؤول إلى الإفلاس، لكنَّهم لم يكونوا يقبلون من المناظر إلا ما يفيد ولو ظنًّا ضعيفًا للنَّاظر، واصطلحوا على شريعةٍ من الجدل، للتعاون على إظهار صواب القول (¬٦) والعمل، ضبطوا بها قوانينَ الاستدلال، لتسلم عن الانتشار والانحلال. فطرائقهم وإن كانت بالنسبة إلى طرائق (¬٧) الأوَّلين غيرَ وافيةٍ بمقصود الدّين، لكنَّها غيرُ خارجةٍ عنها بالكليَّة ولا مشتملة على مالا يُؤثِّر في القضيَّة، وربَّما
---------------
(¬١) بقية النسخ: "عليه".
(¬٢) ضبطها في الأصل و (ف): "وعَلِمَ المنازعُ".
(¬٣) (ب، ق): "ومناظرتهم".
(¬٤) الأصل و (ب، ق): "من".
(¬٥) في بعض النسخ: "هذا".
(¬٦) (ف): "التأول".
(¬٧) (ق): "أدلة".

الصفحة 5