كتاب تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

فَإِن قيل إِنَّمَا كَانَت تِلْكَ الْأَفْعَال مِنْهُم على سَبِيل إِظْهَار المعجزة لكَوْنهم أَنْبيَاء وَمَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام لم تكن نبية
قُلْنَا لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بِدَلِيل أَنهم لَو تحدوا بِتِلْكَ الخروق من غير تنَاول مِنْهُم لَهَا فَوَقَعت على وفْق تحديهم بهَا لصحت المعجزة وَإِذا صحت المعجزة دون التَّنَاوُل باللمس وَالضَّرْب علم أَن تِلْكَ الْأَفْعَال وَقعت إِكْرَاما لَهُم زَائِدا على ثُبُوت المعجزة وَأَيْضًا فَإِن اللَّمْس وَالضَّرْب والتفل لَيْسَ من قبيل المعجزات فَإِنَّهُ مُعْتَاد والمعتاد لَا يكون معْجزَة
فَهَذَا هَذَا وَمن اعْترض من المقلدة بالجزاف فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَلَا دَلِيل فَإِن الْقَوْم الَّذين قَالُوا ذَلِك لم يَأْتُوا بِدَلِيل سوى مَا نقرره من أَن التَّوَكُّل فَوق الْكسْب
وَهَذِه مَسْأَلَة قد حفيت فِيهَا الْأَقْدَام واضطربت الأفهام وَالْأَظْهَر فِيهَا أَن الْكسْب مَعَ التَّوَكُّل إعلاء فَإِنَّهُ يَقع بِالظَّاهِرِ وَيبقى الْبَاطِن متوكلا فَإِذا تصور الْجمع بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن فالكسب الْحَلَال مِمَّن جمع بَينهمَا فَهُوَ إعلاء مقَام لِكَوْنِهِمَا مقامين وعملين فَلَا منافرة بَين التَّوَكُّل وَالْكَسْب لاخْتِلَاف المجال وَمَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام صديقَة وَمن بعض مقامات الصّديق الْجمع بَين الْكسْب والتوكل
وَفِي الْكسْب فَائِدَة كَثِيرَة فَإِنَّهُ مِمَّا ينفع النَّاس وَيصْلح شؤونهم وَيقوم بمنافعهم فِي لباسهم وأقواتهم
فَلَو ترك النَّاس الْكسْب بِالْجُمْلَةِ لهلكت الأَرْض وَمن عَلَيْهَا فقد تصورت فِيهِ الْمَنْفَعَة الْعُظْمَى
وَقد جَاءَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ (سيد الْقَوْم خادمهم)

الصفحة 133