كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.
والفقر الثاني فقرٌ اختياريٌ هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه؛ فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجا (¬١) له (¬٢) فقرًا هو عينُ غناه وعنوانُ فلاحه وسعادته.
وتفاوتُ النَّاسِ في هذا الفقرِ بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامَّة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.
فاللَّه تعالى أخرج العبد من بطن أُمه لا يعلم شيئًا، ولا يقدر على شيءٍ، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع، ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة؛ فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كمالُه أمرًا مشهودًا محسوسًا لكلِّ أحد، ومعلوم أنَّ هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره.
فلمَّا أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلَّمه، وأقدره، وحرَّكه، وصرَّفه (¬٣)، ومكَّنه من
---------------
(¬١) كذا في الأصل، و"ف"، يعني العلمين الشريفين. وفي "ك، ط": "أنتجتا" يعني المعرفتين.
(¬٢) "له" ساقط من "ك، ط".
(¬٣) "ك، ط": "وصرَّفه وحرَّكه".

الصفحة 14