كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 1)

لَكِنَّ أَهْلَ الْأَثَرِ تَكَلَّمُوا فِيهَا وَهِيَ «تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ» الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 146 هـ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُمِيَ أَبُو صَالِحٍ بِالْكَذِبِ حَتَّى لُقِّبَ بِكَلِمَةِ «دروغدت» بِالْفَارِسِيَّةِ بِمَعْنَى الْكَذَّابِ (¬1) وَهِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ (¬2) ، أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا ضِدُّ مَا لَقَّبُوهُ بِسِلْسِلَةِ الذَّهَبِ، وَهِيَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْكَلْبِيَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ الْأَصْلِ، الَّذِي أَسْلَمَ وَطَعَنَ فِي الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَلَا فِي حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، وَقَالَ إِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ ادَّعَى إلهية عَليّ.
وَهنا لَك رِوَايَةُ مُقَاتِلٍ وَرِوَايَةُ الضَّحَّاكِ، وَرِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْهَاشِمِيِّ كُلُّهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَصَحُّهَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» فِيمَا يَصْدُرُ بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْلِيقِ، وَقَدْ خَرَّجَ فِي «الْإِتْقَانِ» ، جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرَتَّبَةً عَلَى سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَدِ اتَّخَذَهَا الْوَضَّاعُونَ وَالْمُدَلِّسُونَ مَلْجَأً لِتَصْحِيحِ مَا يَرْوُونَهُ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي نِسْبَةِ كُلِّ أَمْرٍ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالنَّوَادِرِ، لِأَشْهَرِ النَّاسِ فِي ذَلِك الْمَقْصد.
وَهنا لَك رِوَايَاتٌ تُسْنَدُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَكْثَرُهَا مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، إِلَّا مَا رُوِيَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِثْلَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ لِعَلِيٍّ أَفْهَامًا فِي الْقُرْآنِ كَمَا
وَرَدَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لَعَلِيٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآن»
ثمَّ تَلا حق الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَسَلَكَ كُلُّ فَرِيقٍ مَسْلَكًا يَأْوِي إِلَيْهِ وَذَوْقًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ نَقْلِ مَا يُؤْثَرُ عَنِ السَّلَفِ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَكَذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ تِلْمِيذُ السَّيُوطِيِّ فِي «طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ» ، وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» إِجْمَالًا. وَأَشْهَرُ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِيمَا هُوَ بِأَيْدِي النَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
¬_________
(¬1) «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» .
(¬2) «الإتقان» .

الصفحة 15