كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 1)

وَقَوْلُهُ فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ تَنْفِيرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ إِذَا شَرَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَاسْتِخْرَاجِ لَطَائِفِهِ
أَخْطَأَ غَالِبًا، وَإِنْ أَصَابَ نَادِرًا كَانَ مُخْطِئًا فِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ اهـ» .
وَقَوْلُهُ تَمَامَ مُرَادِ الْحَكِيمِ، أَيِ الْمَقْصُودُ هُوَ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ قُرْآنِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا لِيَكْثُرَ الطَّلَبُ وَاسْتِخْرَاجُ النُّكَتِ، فَيَدْأَبُ كُلُّ أَحَدٍ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى غَايَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الَّذِي نُصِبَ عَلَيْهِ عَلَامَاتٌ بَلَاغِيَّةٌ وَهُوَ مُنْحَصِرٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ بِحَسَبِ التَّتَبُّعِ، وَالْكُلُّ مُظِنَّةُ عَدَمِ التَّنَاهِي وَبَاعِثٌ لِلنَّاظِرِ عَلَى بَذْلِ غَايَةِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاطِّلَاعِ عَلَى قَدْرِ صَفَاءِ الْقَرَائِحِ وَوَفْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رشد فِي جَوَاب لَهُ عَمَّنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ مَا نَصُّهُ: «هَذَا جَاهِلٌ فَلْيَنْصَرِفْ عَنْ ذَلِكَ وَلْيَتُبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ وَالْإِسْلَامِ إِلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 195] إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِخُبْثٍ فِي دِينِهِ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَرَى فَقَدْ قَالَ عَظِيمًا اهـ» .
وَمُرَادُ السَّكَّاكِيِّ مِنْ تَمَامِ مُرَادِ اللَّهِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي الْخُصُوصِيَّةِ، فَمَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5] بِإِنَّا نَعْبُدُكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَمَامِ الْمُرَادِ لِأَنَّهُ أَهْمَلَ مَا يَقْتَضِيهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ مِنَ الْقَصْدِ.
وَقَالَ فِي آخِرِ فَنِّ الْبَيَانِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ» : «لَا أَعْلَمُ فِي بَابِ التَّفْسِيرِ بَعْدَ عِلْمِ الْأُصُولِ أَقْرَأَ عَلَى الْمَرْءِ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَلَا أَعْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ مُتَشَابِهَاتِهِ، وَلَا أَنْفَعَ فِي دَرْكِ لَطَائِفِ نُكَتِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَلَا أَكْشَفَ لِلْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ إِعْجَازِهِ، وَلَكَمْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَرَاهَا قَدْ ضِيمَتْ حَقَّهَا وَاسْتُلِبَتْ مَاءَهَا وَرَوْنَقَهَا أَنْ وَقَعَتْ إِلَى مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ، فَأَخَذُوا بِهَا فِي مَآخِذَ مَرْدُودَةٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى مَحَامِلَ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ إِلَخْ» .
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» . فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَجَازِ الْحُكْمِيِّ: «وَمِنْ عَادَةِ قَوْمٍ مِمَّنْ يَتَعَاطَى التَّفْسِيرَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَلْبَابَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْمَجَازِ وَالتَّمْثِيلِ أَنَّهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا (أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ) ، فَيُفْسِدُوا الْمَعْنَى بِذَلِكَ وَيُبْطِلُوا الْغَرَضَ وَيَمْنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَالسَّامِعَ مِنْهُمُ الْعَلِمَ بِمَوْضِعِ الْبَلَاغَةِ وَبِمَكَانِ الشَّرَفِ، وَنَاهِيكَ بِهِمْ إِذَا أَخَذُوا فِي ذِكْرِ الْوُجُوهِ وَجَعَلُوا يُكْثِرُونَ فِي غير طائل، هُنَا لَك تَرَى مَا شِئْتَ مِنْ بَابِ جَهْلٍ قَدْ فَتَحُوهُ، وَزَنْدِ ضَلَالَةٍ قَدْ قَدَحُوا بِهِ» .

الصفحة 20