كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 1)

الْأُصُولَ الَّتِي أَسَّسُوهَا. وَلَهُمْ فِي التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ ثَقِيلَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَاف: 46] أَنَّ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ الْأَعْرَافُ هُوَ مَقَرُّ أَهْلِ الْمَعَارِفِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ. وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: 71] أَيْ لَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ جَوَازِهِ عَلَى الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ إِمَّا فِي أَيَّام صِبَاهُ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 43] أَرَادَ بِفِرْعَوْنَ الْقَلْبَ.
وَقَدْ تَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابه الملقب ب «المستظهري» . وَقَالَ إِذَا قُلْنَا بِالْبَاطِنِ فَالْبَاطِنُ لَا ضَبْطَ لَهُ بَلْ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْخَوَاطِرُ فَيُمْكِنُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى اهـ. يَعْنِي وَالَّذِي يَتَّخِذُونَهُ حُجَّةٌ لَهُمْ يُمْكِنُ أَنْ نَقْلِبَهُ عَلَيْهِمْ وَنَدَّعِيَ أَنَّهُ بَاطِنُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ لِاسْتِنَادِهِ لِلُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ مِنْ قَبْلُ.
وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَلَا يَقُومُ فَهْمُ أَحَدٍ فِيهِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَلَا إِخَالُهُمْ إِلَّا قَائِلِينَ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ قَرَاطِيسِهِمْ قَالُوا:
«إِنَّمَا يُنْتَقَلُ إِلَى الْبَدَلِ مَعَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَالنَّظَرُ بَدَلٌ مِنَ الْخَبَرِ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ فَهُوَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ وَالْإِمَامُ هُوَ خَلِيفَتُهُ وَمَعَ وُجُودِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يُبَيِّنُ قَوْلَهُ فَلَا يُنْتَقَلُ إِلَى النَّظَرِ اهـ وَبَيَّنَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ» شَيْئًا مِنْ فَضَائِحِ مَذْهَبِهِمْ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِهِ هُنَا.
فَإِن قلت فَمَا
رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَمَطْلَعًا»
. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا. قُلْتُ لَمْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل الْمَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَنْ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِرِوَايَتِهِ عَنْهُ؟ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «فَظَهْرُهُ التِّلَاوَةُ وَبَطْنُهُ التَّأْوِيلُ» فَقَدْ أَوْضَحَ مُرَادَهُ إِنْ صَحَّ عَنْهُ بِأَنَّ الظَّهْرَ هُوَ اللَّفْظُ وَالْبَطْنَ هُوَ الْمَعْنَى. وَمِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ «تَفْسِيرُ الْقَاشَانِيِّ» وَكَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَبْثُوثٌ فِي «رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ» .
أَمَّا مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانٍ لَا تَجْرِي عَلَى أَلْفَاظ الْقُرْآن ظَاهرا وَلَكِنْ بِتَأْوِيلٍ وَنَحْوِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ، بَلْ يَعْنُونَ أَنَّ الْآيَةَ تَصْلُحُ لِلتَّمَثُّلِ بِهَا فِي الْغَرَضِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، وَحَسْبُكُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا إِشَارَاتٍ وَلَمْ يُسَمُّوهَا مَعَانِيَ، فَبِذَلِكَ فَارَقَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ الْبَاطِنِيَّةِ. وَلِعُلَمَاءِ الْحَقِّ فِيهَا رَأْيَانِ: فَالْغَزَالِيُّ يَرَاهَا مَقْبُولَةً، قَالَ
فِي كِتَابٍ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» (¬1) : إِذَا قُلْنَا فِي
قَوْلِهِ صَلَّى
¬_________
(¬1) ج 1/ 49- دَار الْمعرفَة- «كتاب الْعلم» . الْبَاب الْخَامِس: فِي آدَاب المتعلم والمعلم. انْظُر أَيْضا: «إتحاف الزبيدِيّ» 1/ 306.

الصفحة 34