كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 2)

عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَلَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا مِنْ دِينِ الْيَهُودِ، كَمَا عَلِمْتَ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ مَا فِيهِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّ النَّصَارَى يَسْتَقْبِلُونَ الْمَشْرِقَ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ يَسْتَقْبِلُونَهَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَيَمَّنُونَ فِي دُعَائِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى صَوْبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْقِعِ جِهَتِهِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي هُمْ بِهَا فَلَيْسَ لَهُمْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ جِهَاتِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا وَمَا بَيْنَهُمَا فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عَادَةً عِنْدَهُمْ تَوَهَّمُوهُ مِنَ الدِّينِ وَتَعَجَّبُوا مِنْ مُخَالَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقَعْ فِي إِنْجِيلِهِمْ تَغْيِيرٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَعْيِينُ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا الرُّومَ يَجْعَلُونَ أَبْوَابَ هَيَاكِلِهِمْ مُسْتَقْبِلَةً لِمَشْرِقِ الشَّمْسِ بِحَيْثُ تَدْخُلُ أَشِعَّةَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا مِنْ بَاب الهيكل وَتَقَع عَلَى الصَّنَمِ صَاحِبِ الْهَيْكَلِ الْمَوْضُوعِ فِي مُنْتَهَى الْهَيْكَلِ عَكَسُوا ذَلِكَ فَجَعَلُوا أَبْوَابَ الْكَنَائِسِ إِلَى الْغَرْبِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمَذْبَحُ إِلَى الْغَرْبِ وَالْمُصَلُّونَ مُسْتَقْبِلِينَ الشَّرْقَ، وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ أَن بولس هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَهَذِهِ حَالَةُ النَّصَارَى فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ إِنَّ النَّصَارَى مِنَ الْعُصُورِ الْوُسْطَى إِلَى الْآنَ تَوَسَّعُوا فَتَرَكُوا اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كَنَائِسُهُمْ مُخْتَلِفَةَ الِاتِّجَاهِ وَكَذَلِكَ الْمَذَابِحُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي الْكَنِيسَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ اسْتَقْبَلَهَا عِنْدَ الدُّعَاءِ وَعند الصَّلَاة وَأَنه بَنَاهَا لِلصَّلَاةِ حَوْلَهَا فَإِنَّ دَاخِلَهَا لَا يَسَعُ الْجَمَاهِيرَ مِنَ النَّاسِ وَإِذَا كَانَ بِنَاؤُهَا لِلصَّلَاةِ حَوْلَهَا فَهِيَ أَوَّلُ قِبْلَةٍ وُضِعَتْ لِلْمُصَلِّي تُجَاهَهَا وَبِذَلِكَ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ الْعَرَبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
عُذْتُ بِمَا عاذ بِهِ إبراهم ... مُسْتَقْبل المعبة وَهُوَ قَائِمٌ
أَمَّا تَوَجُّهُهُ إِلَى جِهَتِهَا مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ عَنْهَا فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِهِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْتِزَامِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَعَانِي إِكْمَالِ الدِّينِ بِهَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةً ثمَّ تحولوا عَنْهَا إِلَى جِهَةٍ
أُخْرَى وَلَيْسَتِ الَّتِي تَحَوَّلَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَّا جِهَةَ الْكَعْبَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا ثَلَاثَة، أَوَّلُهَا وَأَصَحُّهَا
حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» عَنِ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الصفحة 10