كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 2)

أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ مَا يَأْخُذُونَ إِلَّا أَخْذًا فَظِيعًا مُهْلِكًا فَإِنْ تَنَاوَلَهَا كَتَنَاوُلِ النَّارِ لِلْأَكْلِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ هَلَاكٌ مِنْ وَقْتِ تَنَاوُلِهَا بِالْيَدِ إِلَى حُصُولِهَا فِي الْبَطْنِ، وَوَجْهُ كَوْنِ الرِّشْوَةِ مُهْلِكَةً أَنَّ فِيهَا اضْمِحْلَالَ أَمْرِ الْأُمَّةِ وَذَهَابَ حُرْمَةِ الْعُلَمَاءِ وَالدِّينِ فَتَكُونُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمرَان: 103] أَيْ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ وَالِاضْمِحْلَالِ.
وَالَّذِي يَدْعُو إِلَى الْمَصِيرِ لِلتَّمْثِيلِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُطُونِهِمْ فَإِنَّ الرِّشْوَةَ لَا تُؤْكَلُ فِي الْبَطْنِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَكَّبُ كُلُّهُ اسْتِعَارَةً، وَلَوْ جُعِلَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي خُصُوصِ لَفْظِ النَّارِ لَكَانَ قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُرَكَّبِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَلَوْلَا قَوْلُهُ: فِي بُطُونِهِمْ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ يَأْكُلُونَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ حَقِيقَةً عرفية فِي غصب الْحَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ مُسْتَقْبَلًا، أَيْ مَا سَيَأْكُلُونَ إِلَّا النَّارَ عَلَى أَنَّهُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ وَجِيهٌ، وَنُكْتَةُ اسْتِعَارَةِ الْأَكْلِ هُنَا إِلَى اصْطِلَائِهِمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ هِيَ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَنِ هُنَا الرِّشْوَةُ، وَقَدْ شَاعَ تَسْمِيَةُ أَخْذِ الرَّشْوَةِ أَكْلًا.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ نَفْيٌ لِلْكَلَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنِ الْغَضَبِ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ كَلَامِ التَّكْرِيمِ، فَلَا يُنَافِي قَوْله تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحجر: 93] .
وَقَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ، وَذَلِكَ إِشْعَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَتِ التَّزْكِيَةُ أَعْقَبَهَا الذَّمُّ وَالتَّوْبِيخُ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ ذَمِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ يَوْمئِذٍ سكُوت.
[175]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 175]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
إِنْ جَعَلْتَ أُولئِكَ مُبْتَدَأً ثَانِيًا لِجُمْلَةٍ هِيَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اسْمُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: 174] فَالْقَوْلُ فِيهِ
كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [الْبَقَرَة: 174] وَنُكْتَةُ تَكْرِيرِهِ أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِأَحْكَامٍ أُخْرَى

الصفحة 124