كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 2)

التَّحْضِيضِ مُعَاقِبًا لِلْإِقْرَاضِ فِي الْحُصُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِنَصْبِ الْفَاءِ عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ، وَالْمَعْنَى عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أَصْلُ الْقَبْضِ الشَّدُّ وَالتَّمَاسُكُ، وَأَصْلُ الْبَسْطِ: ضِدُّ الْقَبْضِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَالْإِرْسَالُ، وَقَدْ تَفَرَّعَتْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مَعَانٍ: مِنْهَا الْقَبْضُ بِمَعْنَى الْأَخْذِ فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [الْبَقَرَة: 283] وَبِمَعْنَى الشُّحِّ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: 67] وَمِنْهَا الْبَسْطُ بِمَعْنَى الْبَذْلِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [الرَّعْد: 26] وَبِمَعْنَى السَّخَاءِ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَة: 64] وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْقَابِضُ الْبَاسِطُ بِمَعْنَى الْمَانِعِ الْمُعْطِي.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَيَبْسُطُ) بِالسِّينِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَر وَزوج عَنْ يَعْقُوبَ بِالصَّادِ وَهُوَ لُغَةٌ.
يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا: يَقْبِضُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَيَبْسُطُ الْجَزَاءَ وَالثَّوَابَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ يَقْبِضُ نُفُوسًا عَنِ الْخَيْرِ وَيَبْسُطُ نُفُوسًا لِلْخَيْرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى
الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّقْتِيرِ عَلَى الْبَخِيلِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَمُمْسِكًا تَلَفًا»
وَفِي ابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ «أَنَّهُ لَا يُبَالِي كَيْفَ قَرَأَ يَبْسُطُ وَبَسَطَهُ بِالسِّينِ أَوْ بِالصَّادِ» أَيْ لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الصِّرَاطِ وَالسِّرَاطِ، وَالْأَصْلُ هُوَ السِّينُ، وَلَكِنَّهَا قُلِبَتْ صَادًا فِي بَصَطَهُ وَيَبْصُطُ لِوُجُودِ الطَّاءِ بَعْدَهَا، ومخرجها بعيد عَن مَخْرَجِ السِّينِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ السِّينِ إِلَى الطَّاءِ ثَقِيلٌ بِخِلَافِ الصَّادِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُمْسِكَ الْبَخِيلَ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَحْرُومٌ مِنْ خَيْرٍ كَثِيرٍ.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ جَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ: «أَوَ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ» فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَقَالَ: «فَإِنِّي أَقْرَضْتُ اللَّهَ حَائِطًا فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ وَدَارٍ فَسَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لأبي الدحداح» .

الصفحة 483