كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 2)
(إِنَّ) عَنِ الْإِتْيَانِ بِفَاءِ الْعَطْفِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَقَدْ بَسَطْنَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [الْبَقَرَة: 61] .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَاتِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ دَلَائِلِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ إِثْرَ ذِكْرِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهَا إِذَا أُثْبِتَتْ بِهَا الْوَحْدَانِيَّةُ ثَبَتَ الْوُجُودُ بِالضَّرُورَةِ. فَالْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلرَّدِّ
عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ دَهْرِيِّهِمْ وَمُشْرِكِهِمْ وَالْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً، وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ دَلَائِلَ كُلُّهَا وَاضِحَةٌ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ مَعَ وُضُوحِهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَسْرَارٍ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي دَرْكِهَا حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِقْدَارَ الْأَدِلَّةِ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ قَرَائِحِهِمْ وَعُلُومِهِمْ.
وَالْخَلْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَاخْتِيرَ هُنَا لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِلْعِبْرَةِ أَيْضًا فِي نَفْسِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنِّظَامِ الْجَامِعِ بَيْنَهَا فَكَمَا كُلَّ مَخْلُوقٍ مِنْهَا أَوْ فِيهَا هُوَ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ فَكَذَلِكَ مَجْمُوعُ خَلْقِهَا، وَلَعَلَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَهُوَ النِّظَامُ الْمُنْضَبِطُ فِي أَحْوَالِ الْأَرْضِ مَعَ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالسَّمَاوَاتِ.
والسَّماواتِ جَمْعُ سَمَاءٍ وَالسَّمَاءُ إِذَا أُطْلِقَتْ مُفْرَدَةً فَالْمُرَادُ بِهَا الْجَوُّ الْمُرْتَفِعُ فَوْقَنَا الَّذِي يَبْدُو كَأَنَّهُ قُبَّةٌ زَرْقَاءُ وَهُوَ الْفَضَاءُ الْعَظِيمُ الَّذِي تَسْبَحُ فِيهِ الْكَوَاكِبُ وَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: 5] ، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: 6] ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [الْبَقَرَة: 22] . وَإِذَا جُمِعَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا أَجْرَامٌ عَظِيمَةٌ ذَاتُ نِظَامٍ خَاصٍّ مِثْلُ الْأَرْضِ وَهِيَ السَّيَّارَاتُ الْعَظِيمَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَالَّتِي عُرِفَتْ مِنْ بَعْدُ وَالَّتِي سَتُعْرَفُ: عُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ وَالْمِرِّيخُ وَالشَّمْسُ وَالْمُشْتَرِي وَزُحَلُ وَأُرَانُوسُ وَنِبْتُونُ. ولعلها هِيَ السَّمَوَات السَّبْعُ وَالْعَرْشُ الْعَظِيمُ، وَهَذَا السِّرُّ فِي جمع (السَّمَوَات) هُنَا وَإِفْرَادِ (الْأَرْضِ) لِأَنَّ الْأَرْضَ عَالَمٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى طَبَقَاتِهَا أَوْ أَقْسَامِ سَطْحِهَا.
وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي خلق مَجْمُوع السَّمَوَات مَعَ الْأَرْضِ آيَاتٍ، فَلِذَلِكَ أُفْرِدَ الْخَلْقُ وَجُعِلَتِ الْأَرْضُ مَعْطُوفًا على السَّمَوَات لِيَتَسَلَّطَ الْمُضَافُ عَلَيْهِمَا.
وَالْآيَةُ فِي هَذَا الْخَلْقِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ عَرَفَ أَسْرَارَ هَذَا النِّظَامِ وَقَوَاعِدَ
الصفحة 77