كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 2)

وَأَمَّا كَوْنُهَا نِعْمَةً فَلِأَن فِي هَذَا التَّسْخِيرِ نَفْعًا لِلتِّجَارَةِ وَالزِّيَارَةِ وَالْغَزْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ مَعَ الِاخْتِصَارِ.
وَالْفُلْكُ هُنَا جَمْعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي كَثْرَتِهَا، وَهُوَ وَمُفْرَدُهُ سَوَاءٌ فِي الْوَزْنِ فَالتَّكْسِيرُ فِيهِ اعْتِبَارِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ مُفْرَدِهِ فُلُكٌ بِضَمَّتَيْنِ كَعُنُقٍ وَكُسِّرَ عَلَى فُلْكٍ مِثْلَ عُرْبٍ وَعُجْمٍ وَأُسْدٍ وَخُفِّفَ الْمُفْرَدُ بِتَسْكِينِ عَيْنِهِ لِأَنَّ سَاكِنَ الْعَيْنِ فِي مَضْمُومِ الْفَاءِ فَرْعُ مَضْمُومِ الْعين مَا قُصِدَ مِنْهُ التَّخْفِيف على مت بَيَّنَهُ الرَّضِيُّ فَاسْتَوَى فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقِيلَ الْمُفْرَدُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَالْجَمْعُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ قِيلَ أَسْدٌ وَأُسُدٌ وَخَشْبٌ وَخُشُبٌ ثُمَّ سُكِّنَتِ اللَّامُ تَخْفِيفًا، وَالِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ ضَمُّ الْفَاءِ
وَسُكُونُ اللَّامِ قَالَ تَعَالَى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ [هود: 37] . والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشُّعَرَاء: 119] وَقَالَ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَقَالَ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [إِبْرَاهِيم:
32] ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ [يُونُس: 22] ، ثُمَّ إِنَّ أَصْلَ مُفْرَدِهِ التَّذْكِيرُ قَالَ تَعَالَى: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى السَّفِينَةِ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: 41] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ [هود: 42] كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] .
وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إِذْ عَدَّ لَفْظَ الْفُلْكِ مِمَّا أُنِّثَ بِدُونِ تَاءٍ وَلَا أَلِفٍ فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ «وَالْفُلْكُ تَجْرِي وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ» لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِاسْتِعْمَالِهِ مُؤَنَّثًا وَإِنْ كَانَ تَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلٍ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَجُوزُ فِي مُفْرَدِهِ فَقَطْ ضَمُّ اللَّامِ مَعَ ضَمِّ الْفَاءِ وَقُرِئَ بِهِ شَاذًّا وَالْقَوْلُ بِهِ ضَعِيفٌ، وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ هُوَ بِضَمِّ اللَّامِ أَيْضًا لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعُ وَهُوَ مَرْدُودٌ إِذْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهُ قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى السَّاكِنِ.
وَفِي امْتِنَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَرَيَانِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ (¬1) دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مِثْلِ رُكُوبِهِ لِلْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» (¬2) وَتَبِعَهُ أَهْلُ «الصَّحِيحِ» حَدِيثَ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فِي بَابِ التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ الثَّانِي
مِنَ «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
فَنَامَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا على الأسرة قَالَت فَقُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا»
الْحَدِيثَ.
¬_________
(¬1) ذكر ذَلِك الْقُرْطُبِيّ فِي شَرحه لِلْآيَةِ، وَفِي مَوَاضِع أخر فِي (7/ 341، 8/ 325) .
(¬2) فِي 21 «كتاب الْجِهَاد» (18) ، بَاب التَّرْغِيب فِي الْجِهَاد، حَدِيث 39. وَأخرجه البُخَارِيّ فِي: (56) ، «كتاب الْجِهَاد» (3) ، بَاب الدُّعَاء بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَة للرِّجَال وَالنِّسَاء وَمُسلم فِي: (33) «كتاب الْإِمَارَة» (49) ، بَاب فضل الْغَزْو فِي الْبَحْر، حَدِيث (160) .

الصفحة 81