كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 3)

بِبَغْدَادَ سَنَةَ 475، وَمُقَاتَلَةُ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ بِهَا سَنَةَ 445، وَأَعْقَبَتْهَا حَوَادِثُ شَرٍّ بَيْنَهُمْ مُتَكَرِّرَةٌ إِلَى أَنِ اصْطَلَحُوا فِي سَنَةِ 502 وَزَالَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، وَقِتَالُ الْبَاطِنِيَّةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي سَاوَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ سَنَةِ 494 إِلَى سَنَةِ 523. ثُمَّ انْقَلَبَتْ إِلَى مُقَاتَلَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ. ثُمَّ انْقَلَبُوا أَنْصَارًا لِلْإِسْلَامِ فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَاتَلَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ التَّكْفِيرِ وَالتَّضْلِيلِ. لَا نَذْكُرُ غَيْرَهَا مِنْ مُقَاتَلَاتِ الدُّوَلِ وَالْأَحْزَابِ الَّتِي نخرت عظم الْإِسْلَامِ. وَتَطَرَّقَتْ كُلَّ جِهَةٍ مِنْهُ حَتَّى الْبَلَدَ الْحَرَامَ.
فَالْآيَةُ تنادي على التعجيب وَالتَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ الْأُمَمِ فِي التَّقَاتُلِ لِلتَّخَالُفِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغُوا فِي أَصَالَةِ الْعُقُولِ أَوْ فِي سَلَامَةِ الطَّوَايَا إِلَى الْوَسَائِلِ الَّتِي يَتَفَادَوْنَ بِهَا عَنِ التَّقَاتُلِ، فَهُمْ مَلُومُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَمُشِيرَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى صِفَةٍ أَكْمَلَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَعِدُّوا بِهَا إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى التَّبَصُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ قَبْلَ ذَلِكَ الْإِبَّانِ، فَانْتِفَاءُ الْمَشِيئَةِ رَاجِعٌ إِلَى حِكْمَةِ الْخِلْقَةِ، وَاللَّوْمُ وَالْحَسْرَةُ رَاجِعَانِ إِلَى التَّقْصِيرِ فِي امْتِثَالِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَأَعَادَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لِيَعْلَمَ الْوَاقِفُ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ فِي هُدَى اللَّهِ تَعَالَى مَقْنَعًا لَهُمْ لَوْ أَرَادُوا الِاهْتِدَاءَ، وأنّ فِي سَعَة قدرته تَعَالَى عصمَة لَهُم لَو خلقهمْ على أكمل من هَذَا الْخلق كَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ. فَاللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَلَكِنَّهُ يُكَمِّلُ حَالَ الْخَلْقِ بِالْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، وَهُمْ يُفَرِّطُونَ فِي ذَلِك.
[254]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 254]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلُ مَوْقِعِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: 245] الْآيَة لأنّه لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى بَذْلِ نُفُوسِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 244] شَفَعَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: 245] عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ:
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: 72] ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ لِآيَةِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لِأَنَّ صِيغَةَ هَذِهِ الْآيَةِ

الصفحة 13