كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 3)

وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] ، وَثَبَتَتْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَأُشِيرَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاء: 79] وَفُسِّرَتِ الْآيَةُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أُصُولِ اعْتِقَادِنَا إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ
لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي إِنْكَارِهَا وَمُلَبِّسُونَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ.
وَالشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا الشَّفَاعَةُ الَّتِي لَا يَسَعُ الْمَشْفُوعَ إِلَيْهِ رَدُّهَا، فَلَا يُعَارِضُ مَا
وَرَدَ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّ تِلْكَ كَرَامَةٌ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَأَذِنَ لَهُ فِيهَا إِذْ يَقُولُ: «اشْفَعْ تُشَفَّعْ»
فَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] وَقَوْلِهِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: 28] وَقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] .
وَقَوْلُهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ صِيغَةُ قَصْرٍ نَشَأَتْ عَنْ قَوْلِهِ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ تَعْرِيضٌ وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَعَقَّبَ بِزِيَادَةِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ وَالتَّنْدِيدِ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ وَالْمُهَدَّدَ بِهِ قَدْ جَلَبُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ فَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَهَذَا أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى الْمُعَاقَبِ لِأَنَّ الْمَظْلُومَ يَجِدُ لِنَفْسِهِ سَلْوًا بِأَنَّهُ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ، بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا لِأَنَّ ظُلْمَهُمْ لَمَّا كَانَ أَشَدَّ الظُّلْمِ جُعِلُوا كَمَنِ انْحَصَرَ الظُّلْمُ فِيهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ ظَاهِرًا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صَالِحَةٌ أَيْضًا لِتَذْيِيلِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لِقِتَالِ الْمُشْركين الَّذين بدأوا الدِّينَ بِالْمُنَاوَأَةِ، فَهُمُ الظَّالِمُونَ لَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ. وَذِكْرُ الْكَافِرِينَ فِي مَقَامِ التَّسْجِيلِ فِيهِ تَنْزِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَتْرُكُوا الْإِنْفَاقَ إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ، فَتَرْكُهُ وَالْكُفْرُ مُتَلَازِمَانِ، فَالْكَافِرُونَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَظْلِمُونَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6، 7] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُصَوِّرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَكْمَلِ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَيُقَابِلُ حَالَهُمْ بِحَالِ الْكُفَّارِ تَغْلِيظًا وَتَنْزِيهًا، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا اعْتَقَدَ بَعْضُ فِرَقِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُبْطِلُ الْإِيمَانَ كَمَا قدّمناه.

الصفحة 16