كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 4)

وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَوَّلِيَّةُ مُوجِبَةَ التَّفْضِيلِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَةِ لَا تَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ، إِذْ هِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنْ طُولِ أَزْمَانِ التَّعَبُّدِ فِيهَا، وَبِنِسْبَتِهَا إِلَى بَانِيهَا، وَبِحُسْنِ الْمَقْصِدِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: 108] .
وَقَدْ جَمَعَتِ الْكَعْبَةُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَزَايَا فَكَانَتْ أَسْبَقَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْحَقِّ، وَهِيَ أَسْبَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِتِسْعَةِ قُرُونٍ. فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى الْكَعْبَةَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 1900 قَبْلَ الْمَسِيحِ وَسُلَيْمَانُ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَنَةَ 1000 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَالْكَعْبَةُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ بِيَدِهِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بِيَدِ رَسُولٍ. وَأَمَّا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَبَنَاهَا الْعَمَلَةُ لِسُلَيْمَانَ بِأَمْرِهِ.
وَرُوِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ:
الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:
أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاسْتَشْكَلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ قُرُونًا فَكَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ دُرِسَ فَجَدَّدَهُ سُلَيْمَان.
وَأَقُول: لَا شكّ أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ كَمَا هُوَ نَصُّ كِتَابِ الْيَهُودِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ [سبأ: 13] الْآيَةَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا مَرَّ بِبِلَادِ الشَّامِ وَوَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يُورِثَ تِلْكَ الْأَرْضَ نَسْلَهُ عَيَّنَ الله لَهُ الْوَضع الَّذِي سَيَكُونُ بِهِ أَكْبَرُ مَسْجِدٍ تَبْنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ مَسْجِدًا صَغِيرًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الْمَجْعُولَةِ مَذْبَحًا لِلْقُرْبَانِ. وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي بَنَى سُلَيْمَانُ عَلَيْهَا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ دُثِرَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ حَتَّى هَدَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ إِلَى إِقَامَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَهْمَلَتْهُ كُتُبُ الْيَهُودِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى مَذَابِحَ فِي جِهَاتٍ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُعْطِي تِلْكَ الْأَرْضَ لِنَسْلِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَى أَيْضًا بِمَوْضِعِ مَسْجِدِ أُرْشَلِيمَ مَذْبَحًا.

الصفحة 15