كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 4)

جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: 33] الْآيَةَ مِنْ هَاتِهِ السُّورَةِ. وَشَرَعَ اللَّهُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ تَوَالَدَ الْمُسْلِمُونَ وَلَحِقَ بِهِمْ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ مُؤْمِنِينَ، فَشَرَعَ اللَّهُ الْمِيرَاثَ بِالْقَرَابَةِ، وَجَعَلَ لِلنِّسَاءِ حُظُوظًا فِي ذَلِكَ فَأَتَمَّ الْكَلِمَةَ، وَأَسْبَغَ النِّعْمَةَ، وَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ حِكْمَةَ الْمِيرَاثِ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى الْقَرَابَةِ بِالْوِلَادَةِ وَمَا دُونَهَا.
وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَوَّلَ إِعْطَاءٍ لِحَقِّ الْإِرْثِ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَرَبِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْمُقَدِّمَةِ جَاءَتْ بِإِجْمَالِ الْحَقِّ وَالنَّصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَتَلَاهُ تَفْصِيلُهُ، لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِجْمَالِ حِكْمَةُ وُرُودِ الْأَحْكَامِ الْمُرَادِ نَسْخُهَا إِلَى أَثْقَلَ لِتَسْكُنَ النُّفُوسُ إِلَيْهَا بِالتَّدْرِيجِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُحَّةٍ (¬1) فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّ زَوْجِي قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَاتَانِ بِنْتَاهُ وَقَدِ اسْتَوْفَى عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَمَا تَرَى يَا رَسُول الله؟ فو اللَّهِ مَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ» . فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ
وَفِيهَا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: 11] .
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «ادْعُ لِي الْمَرْأَةَ وصاحبها» فَقَالَ لعمتهما «أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ»
. وَيُرْوَى: أَنَّ ابْنَيْ عَمِّهِ
سُوَيْدٌ وَعُرْفُطَةُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَتَادَةُ وَعُرْفُجَةُ،
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا الْعَمَّ أَوِ ابْنَيِ الْعَمِّ قَالَ، أَوْ قَالَا لَهُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نُعْطِي مَنْ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا وَلَا يَنْكَى عَدُوًّا» فَقَالَ «انْصَرِفْ أَوِ انْصَرِفَا، حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِنَّ» فَنَزَلَتْ
آيَةُ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الْآيَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ أَرْسَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَلِيِّ الْبِنْتَيْنِ فَقَالَ: «لَا تُفَرِّقُ مِنْ مَالِ أَبِيهِمَا شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا»
¬_________
(¬1) الكحّة بضمّ الْكَاف وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة لُغَة فِي القحة وَهِي الْخَالِصَة.

الصفحة 249