كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 4)

وَالْقِنْطَارُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ الْمُعْطَى صَدَاقا أَي مَا لَا كَثِيرًا، كَثْرَةٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ. وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ الْقِنْطَارِ مُبَاحٌ شَرْعًا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُمَثِّلُ بِمَا لَا يَرْضَى شَرْعَهُ مِثْلَ الْحَرَامِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَنَهَى عَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدُقَاتِ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ» قَالَ: «بَلْ كِتَابُ اللَّهِ! بِمَ ذَلِكَ؟» قَالَتْ: إِنَّكَ نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: 20] فَقَالَ عُمَرُ «كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ» ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَلْيَفْعَلْ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَالِهِ مَا شَاءَ» . وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ تَحْجِيرِ الْمُبَاحِ لِأَنَّهُ رَآهُ يُنَافِي الْإِبَاحَةَ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَقَدْ كَانَ بَدَا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ فِي الْمُغَالَاةِ عِلَّةً تَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَكُونَ رَأَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُحَجِّرَ بَعْضَ الْمُبَاحِ لِلْمَصْلَحَةِ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي إِذْنَ الشَّرْعِ فِي فِعْلِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ: إِحْداهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى النِّسَاءِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ طَلَاقُهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِنْطَارِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [14] .
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْخُذُونَهُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ، مَصْدَرُ بَهَتَهُ كَمَنَعَهَ إِذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَتَقَدَّمَ الْبُهْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [258] .
وَانْتُصِبَ بُهْتاناً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي (تَأْخُذُونَهُ) بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ مُبَاهِتِينَ. وَإِنَّمَا جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا كَرِهُوا الْمَرْأَةَ وَأَرَادُوا طَلَاقَهَا، رَمَوْهَا بِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاخْتَلَقُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، لِكَيْ تَخْشَى

الصفحة 289