كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 4)

صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِدِينِهِمْ. وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ فَاسِقٌ عَنْ دِينِهِ، مُحَرِّفٌ لَهُ، مِنَاوٍ لِأَهْلِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ مِثْلُ الَّذِينَ سَمُّوا الشَّاةَ لِرَسُولِ اللَّهِ يَوْمَ خَيْبَرٍ، وَالَّذِينَ حَاوَلُوا أَنْ يَرْمُوا عَلَيْهِ صَخْرَة.
[111]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 111]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 110] لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ يُؤْذِنُ بِمُعَادَاتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ خَشْيَةً مِنْ بَأْسِهِمْ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ حِيَالَ الْمَدِينَةِ فِي خَيْبَرَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، وَقُرَيْظَةَ، وَكَانُوا أَهْلَ مَكْرٍ، وَقُوَّةٍ، وَمَالٍ، عدّة، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فِي قِلَّةٍ فَطَمْأَنَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ بَأْسَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْشَوْنَ ضُرَّهُمْ، لَكِنْ أَذَاهُمْ.
أَمَّا النَّصَارَى فَلَا مُلَابَسَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَخْشَوْهُمْ. وَالْأَذَى هُوَ الْأَلَمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ الْأَلَمُ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الضُّرُّ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ إِسْحَاقِ بْنِ خَلَفٍ:
أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ... وَكُنْتُ أُبْقِي عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ
وَمَعْنَى يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ يَفِرُّونَ مُنْهَزِمِينَ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ احْتِرَاسٌ أَيْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ تَوْلِيَةَ مُنْهَزِمِينَ لَا تَوْلِيَةَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ مُتَأَمِّلِينَ فِي الْأَمْرِ. وَفِي الْعُدُولِ عَنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ إِلَى جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ مَعًا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا دَيْدَنُهُمْ وَهَجِيرَاهُمْ. لَوْ قَاتَلُوكُمْ، وَكَذَلِكَ فِي قِتَالِهِمْ غَيْرَكُمْ.

الصفحة 54