كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 4)

وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالْبَاءُ سَبَبُ السَّبَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً ثَانِيَةً إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ فَيَكُونُ سَبَبًا ثَانِيًا. (وَمَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَهَذَا نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ فَكُفْرُهُمْ بِالْآيَاتِ سَبَبُهُ الْعِصْيَانُ، وَقَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ سَببه الاعتداء.
[113، 114]

[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 113 إِلَى 114]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ إِنْصَافُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى مُعْظَمِهِمْ بِصِيغَةٍ تَعُمُّهُمْ، تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 110] فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ آنِفًا، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا منزلَة التَّمْهِيد.
و (سَوَاء) اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْوِيَةِ.
وَجُمْلَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ إِلَخْ ... مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ لَيْسُوا سَواءً وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلِاهْتِمَامِ بهؤلاء الْأمة، فلأمّة هُنَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ.
وَإِطْلَاقُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكتاب: ليَكُون ذَا الثَّنَاءُ شَامِلًا لِصَالِحِي الْيَهُودِ، وَصَالِحِي النَّصَارَى، فَلَا يُخْتَصُّ بِصَالِحِي الْيَهُودِ، فَإِنَّ صَالِحِي الْيَهُودِ قَبْلَ بَعْثَةِ عِيسَى كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ، مُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسَى وَاتَّبَعُوهُ، وَكَذَلِكَ صَالِحُو النَّصَارَى قَبْلَ

الصفحة 57