كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 4)

بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَهْلُ تَهَجُّدٍ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ وَقَدْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ وَالْجَمَاعَةُ.
وَمَعْنَى قَائِمَةٌ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِلْعَمَلِ بِدِينِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ، كَمَا يُقَالُ: سُوقٌ قَائِمَةٌ وَشَرِيعَةٌ قَائِمَةٌ.
وَالْآنَاءُ أَصْلُهُ أَأْنَاءُ بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ، وَهُوَ جَمْعُ إِنًى- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ النُّونِ مَقْصُورًا- وَيُقَالُ أَنَى- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- قَالَ تَعَالَى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: 53] أَيْ مُنْتَظَرِينَ وَقْتَهُ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَسْجُدُونَ حَالٌ، أَيْ يَتَهَجَّدُونَ فِي اللَّيْلِ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِمْ، فَقُيِّدَتْ تِلَاوَتُهُمُ الْكِتَابَ بِحَالَةِ سُجُودِهِمْ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ أَبْلَغُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: يَتَهَجَّدُونَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صُورَةِ فِعْلِهِمْ.
وَمَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يُسَارِعُونَ إِلَيْهَا أَيْ يَرْغَبُونَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا.
وَالْمُسَارَعَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، تَشْبِيهًا لِلِاسْتِكْثَارِ وَالِاعْتِنَاءِ بِالسَّيْرِ السَّرِيعِ لِبُلُوغِ الْمَطْلُوبِ. وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ تَخْيِيلِيَّةٌ تُؤْذِنُ بِتَشْبِيهِ الْخَيْرَاتِ بِطَرِيقٍ يَسِيرُ فِيهِ السَّائِرُونَ، وَلِهَؤُلَاءِ مَزِيَّةُ السُّرْعَةِ فِي قَطْعِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَجْمُوعَ الْمُرَكَّبِ مِنْ قَوْلِهِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ تَمْثِيلًا لِحَالِ مُبَادَرَتِهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ بِحَالِ السَّائِرِ الرَّاغِبِ فِي الْبُلُوغِ إِلَى قَصْدِهِ يُسْرِعُ فِي سَيْرِهِ. وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [176] .
وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِسَبَبِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ من الْأَوْصَاف.
[115]

[سُورَة آل عمرَان (3) : آيَة 115]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ

الصفحة 58