كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 5)

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
تَفْرِيعٌ عَلَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَهُوَ تَفْرِيعٌ لَفْظِيٌّ لِبَيَانِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء:
4] سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ رُكْنًا لِلنِّكَاحِ، أَوْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُجَرَّدَ حَقٍّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِهِ وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) اسْمَ شَرْطٍ صَادِقًا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الْخَبَرُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ.
وَالِاسْتِمْتَاعُ: الِانْتِفَاعُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَسَمَّى اللَّهُ النِّكَاحَ اسْتِمْتَاعًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَجَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: 26] .
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى (مَا) . وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: فَإِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ فَلَا يَجُوزُ اسْتِمْتَاعٌ بِهِنَّ دُونَ مَهْرٍ.
أَوْ يَكُونُ (مَا) صَادِقَةً عَلَى النِّسَاءِ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْمَأْخُوذِ مِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ، أَيْ فَأَيُّ امْرَأَةٍ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَآتُوهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَيَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا لِمُعَامَلَتِهَا مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَجِيءَ حِينَئِذٍ بِ (مَا) وَلَمْ يُعَبَّرْ بِ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النِّسَاءِ لَا الْقَصْدُ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى أَنَّ (مَا) تَجِيءُ لِلْعَاقِلِ كَثِيرًا وَلَا عَكْسَ: وفَرِيضَةً حَالٌ مِنْ أُجُورَهُنَّ أَيْ مَفْرُوضَةً، أَيْ مُقَدَّرَةً بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ قَطْعُ الْخُصُومَاتِ فِي أَعْظَمِ مُعَامَلَةٍ يُقْصَدُ مِنْهَا الْوِثَاقُ وَحُسْنُ السُّمْعَةِ.
وَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ مَعَ السُّكُوتِ عَنِ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَجَوَازُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَوِّضُونَ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ مُعْتَادَ أَمْثَالِهِمْ، وَيَكُونُ (فَرِيضَةً) بِمَعْنَى تَقْدِيرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ فِيمَا زِدْتُمْ لَهُنَّ أَوْ أَسْقَطْنَ لَكُمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بَيِّنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.

الصفحة 9