كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 6)

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَانَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ مُسْتَأْنِفَةً، أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا عَنَوْا بِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَتَعْبُدُونَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيطِ مَجَازًا.
وَمَعْنَى مِنْ دُونِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ. فَمِنْ لِلتَّوْكِيدِ، وَ (دُونَ) اسْمٌ لِلْمُغَايِرِ، فَهُوَ مُرَادِفٌ لِسِوَى، أَيْ أَتَعْبُدُونَ مَعْبُودًا هُوَ غَيْرُ اللَّهِ، أَيْ أَتُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَتَعْبُدُونَ مَعْبُودًا وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ. وَانْظُرْ مَا فَسَّرْنَا بِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] ، فَالْمُخَاطَبُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَهُمْ مَا عَبَدُوا الْمَسِيحَ إِلَّا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فِيهِ فَقَدْ عَبَدُوا اللَّهَ فِيهِ، فَشَمَلَ هَذَا الْخِطَابُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَنَصَارَى الْعَرَبِ كُلِّهِمْ.
وَلِذَلِكَ جِيءَ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ دُونَ (مَنْ) لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَشْيَاءُ لَا تَعْقِلُ، وَقَدْ غَلَبَ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ. وَلَوْ أُرِيدَ بِ مَا لَا يَمْلِكُ عِيسَى وَأُمُّهُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ وَجُعِلَ الْخِطَابُ خَاصًّا بِالنَّصَارَى كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِ مَا صَحِيحًا لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَال (من) ، وَكثير فِي الْكَلَامِ بِحَيْثُ يَكْثُرُ عَلَى التَّأْوِيلِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ التَّعْبِيرُ بِمَنْ أَظْهَرَ.
وَمَعْنَى لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْمِلْكِ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِدُونِ مُعَارِضٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَشْيَاءِ بِدُونِ عَجْزٍ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرَ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا

الصفحة 288