كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 6)

فَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِثْلَ (قِيَافَا) حَبْرِ الْيَهُودِ الَّذِي كَفَّرَ عِيسَى- عَلَيْهِ
السَّلَامُ- وَحَكَمَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ، وَمِثْلَ الْمَجْمَعِ الْمَلْكَانِيِّ الَّذِي سَجَّلَ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ.
وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وَبَعْدُ وَغَيْرُ وَحَسْبُ وَدُونَ، وَأَسْمَاءُ الْجِهَاتِ، وَكَثُرَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَبْنِيَّةً عَلَى الضَّمِّ حِينَئِذٍ، وَيَنْدُرَ أَنْ تَكُونَ مُعَرَّبَةً إِلَّا إِذَا نُكِّرَتْ. وَقَدْ وَجَّهَ النَّحْوِيُّونَ حَالَةَ إِعْرَابِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إِذَا لَمْ تُنَكَّرُ بِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ لَفْظِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ حَالَةِ بِنَائِهَا الْغَالِبَةِ وَحَالَةِ إِعْرَابِهَا النَّادِرَةِ، وَهُوَ كَشْفٌ لِسِرٍّ لَطِيفٍ مِنْ أَسْرَارِ اللُّغَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فَهَذَا ضَلَالٌ آخَرُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ الَّذِي ضَلُّوا عَنْهُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَالسَّوَاءُ الْمُسْتَقِيمُ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِلْحَقِّ الْوَاضِحِ، أَيْ قَدْ ضَلُّوا فِي دِينِهِمْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ وَضَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِلنَّصَارَى خَاصَّةً، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَقِبَ مُجَادَلَةِ النَّصَارَى وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُلُوِّ التَّثْلِيثُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ هُمُ الْيَهُودُ.
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَهْوَائِهِمُ النَّهْيُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ بِحَيْثُ إِذَا تَأَمَّلَ الْمُخَاطَبُونَ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ قَدِ اتَّبَعُوهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَاصِدِينَ مُتَابَعَتِهِمْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَنْفِيرًا لِلنَّصَارَى مِنْ سُلُوكِهِمْ فِي دِينِهِمُ الْمُمَاثِلِ لِسُلُوكِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ النَّصَارَى يَبْغَضُونَ الْيَهُودَ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ على ضلال.
[78، 79]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 78 إِلَى 79]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ

الصفحة 291