كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

وَجُمْلَةُ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ، لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمٍ لِلَّهِ وَنَفْيِ عِلْمٍ عَنْ غَيْرِهِ، فَعُطِفَتْ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى إِثْبَات علم لله تَعَالَى، دُونَ نَفْيِ عِلْمِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عِلْمُ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي قَدْ يَتَوَصَّلُ النَّاسُ إِلَى عِلْمِ بَعْضِهَا، فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لِإِفَادَةِ تَعْمِيمِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ فِي الظُّهُورِ بَعْدَ إِفَادَةِ عِلْمِهِ بِمَا لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ.
وَظُهُورُ مَا فِي الْبَرِّ لِلنَّاسِ عَلَى الْجُمْلَةِ أَقْوَى مِنْ ظُهُورِ مَا فِي الْبَحْرِ. وَذَكَرَ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ الْكُرَةُ، لِأَنَّ الْبَرَّ هُوَ سَطْحُ الْأَرْضِ الَّذِي يَمْشِي فِيهِ الْحَيَوَانُ غَيْرَ سَابِحٍ، وَالْبَحْرَ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَغْمُرُ جُزْءًا مِنَ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ مِلْحًا أَمْ عَذْبًا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّهْرَ بَحْرًا كَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ. وَالْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ فَيَشْمَلُ الذَّوَاتِ وَالْمَعَانِيَ كُلَّهَا.
وَجُمْلَةُ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ الدَّقِيقَةِ. فَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْخَفَايَا مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَضْعَفَ الْجُزْئِيَّاتِ مُؤْذِنٌ بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ أَوْلَى بِهِ. وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَعَلِمَ أَنْ سَيَقُولَ بِقَوْلِهِمْ مَنْ لَا رُسُوخَ لَهُ فِي الدِّينِ مِنْ أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَتْرُكْ لِلتَّأْوِيلِ فِي حَقِيقَةِ عِلْمِهِ مَجَالًا، إِذْ قَالَ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ كَمَا سَنُبَيِّنُ الِاخْتِيَارَ فِي وَجْهِ إِعْرَابِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَرَقَةِ وَرَقَةٌ مِنَ الشَّجَرِ. وَحَرْفُ (مِنْ) زَائِدٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ نَصًّا.
وَجُمْلَةُ يَعْلَمُها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَرَقَةٍ الْوَاقِعَةِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ الْمُسْتَغْنِيَةِ بِالْعُمُومِ عَنِ الصِّفَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُفْرَغٌ مِنْ أَحْوَالٍ، وَهَذِهِ الْحَالُ حَالٌ لَازِمَةٌ بَعْدَ النَّفْيِ حَصَلَ بِهَا مَعَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ الْفَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي حَالَةٍ إِلَّا حَالَةً يَعْلَمُهَا.
وَالْأَظْهَرُ فِي نَظْمِ قَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ أَنْ يَكُونَ وَرَقَةٍ فِي مَحَلِّ الْمُبْتَدَأِ مَجْرُورٌ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ، وَجُمْلَةُ تَسْقُطُ صِفَةٌ لِ وَرَقَةٍ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا فَتُعْرَبُ حَالًا،

الصفحة 272